اليمين الجديد في إسرائيل
حكمت الأحزاب ذات الصبغة اليسارية إسرائيل في العقود الثلاثة الأولى من تأسيسها، وتقدّم حزب العمل المشهد السياسي بفضل شخصيات مثل بن غوريون وإسحق رابين، ولكن الهزائم المتتالية أجبرت اليمين الإسرائيلي، وفي طليعته مناحيم بيغن، على إعادة تشكيل نفسه، ووافقت عدة أحزاب يمينية ودينية الانصهار تحت مسمّى واحد، الليكود، الذي نجح، بقيادة بيغن، في كسر قاعدة اليسار، وفاز في انتخابات عام 1977، وبدأ منذ ذلك الحين بالفوز، فعلى مدى الخمسة وأربعين عاما الأخيرة، لم يحكم اليسار وحزب العمل إلا ثماني سنوات فقط، واحتل اليمين السبعة والثلاثين عاما الباقية. وخلال هذه الفترة من ممارسة السياسة، استطاع أن يروّض كرسي رئاسة الوزراء لصالحه، وطوّر آلية سياسية تميل به أكثر فأكثر نحو التطرّف، وصولا إلى هذه الحكومة التي صودق عليها أمس، وتوصَف بأنها أكثر الحكومات يمينية وتطرّفا في تاريخ إسرائيل.
تضمّ الحكومة الإسرائيلية الجديدة أشخاصا في منتهى العنف والتطرّف والتديّن، وبعضهم مدان بالعنصرية والإرهاب وحمل السلاح، مثل إيتمار بن غيفر، وهذا سيكون وزيرا للشرطة. ومن بينهم أيضا مستوطنون في الضفة الغربية، وهؤلاء يمثلون الموقف الأكثر غلوا، ويعارضون مقترح حلّ الدولتين بكل وسيلة، ويجاهدون لإضفاء الشرعية على كل المستوطنات، ومنهم بيزاليل سموتريتش الذي ولد في مستوطنة في الجولان، ونشأ في مستوطنة في الضفة الغربية، وتقصَّد أن يبني بيتا مخالفا في مستوطنة كدوميم، ويعيش فيها، وهذا سيكون وزيرا للمالية. وفضلا عن المستوطن والعنصري، هناك المتشدّد دينيا، الذي يرغب بتطبيق شرائع تنافي ما تعتنقه الحضارة الحديثة من مفاهيم، مثل أوريت ستروك، وهي سيدة "متدينة"، تظهر بشعر مغطّى على الطريقة اليهودية، وستكون وزيرة المهمات الوطنية، وقد دين أحد أبنائها بضرب طفل عربي، وسجن ثلاثين شهرا.
تملك هذه الحكومة المحمّلة بالكراهية والبغض أغلبية مريحة جدا، ومرشّحة لتعيش طوال السنوات الأربع المقبلة، وهي من ستهندس علاقات إسرائيل السياسية، وستشرف على معمارها الاجتماعي الداخلي، وهي من سيتعامل مع العرب في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومن الطبيعي أن تعمل هذه الحكومة بما تحمله وتؤمن به، لنشر فكرها على أوسع نطاق ممكن في إسرائيل. ومن المتوقع أن تنجح في ذلك بعد موات للتيار المسمّى يسارا، فقد خرج "ميرتس"، الحزب الأكثر يسارية، من الكنيست، كما بقي لحزب العمل، الذي حكم إسرائيل منذ إنشائها وحتى العام 1977، ثلاثة مقاعد فقط، الأمر الذي يعبّر بقوة عن طبيعة التكوين السياسي لإسرائيل، ونتائج صيرورتها الاجتماعية والفكرية، وهذا ما نتج بعد خمسة انتخابات متتالية، تأرجحت لوائحها بقلق ما بين يمين واضح ويسار تتضاءل قيمته ومحتواه، ويجد في المقاعد العربية بعض السلوى، حتى انتهى الأمر، ووصل اليمينيون الراديكاليون الذين يتحدّثون بصراحة عن قتلِ العرب وتهجيرهم إلى سدة الحكم في إسرائيل، بعد أن كان الأمر لا يتعدّى الهمس أو الكلام بصوت منخفض.
أمام هذا التيار المتطرّف الذي ستنتهي معه مقولات حلّ الدولتين، لا يوجد معادل عربي موازٍ، قادر على المواجهة أو الصمود في المحافل الدولية ضد تيار من هذا النوع. ولم يعد للعرب تلك الوضعية المتماسكة إلى حد كبير، فقد نجحت إسرائيل في إحداث "دفرسوار" أو ثغرة عربية جديدة، نفذَّت من خلالها السلام مع بعض الدول العربية وصولا إلى مستوى التطبيع، وهي الدول الغنية والتي ما زالت تتمتع بقوى سليمة وتماسك سياسي كبير. أما ما بقي من الدول العربية فما زال يلعق جراحه من توابع الربيع العربي، وهو غير قادر، وربما غير راغب، بالدخول من جديد في "لعبة" القضية الفلسطينية التي أصبحت عمليا شأنا داخليا يهمّ، بالدرجة الأولى، من يعيش داخل فلسطين، خصوصا أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة.