اليوم، أركب الطائرة
اليوم، أركب الطائرة. لا أذهب في عطلة صيفية، ولا أهاجر. أنا فقط أبتعد بانتظار مرور الإعصار القادم، لأني لا أريد أن أكون في قلبه، ولا على دربه، ولا حتى شاهدةً عليه. أودّ أن أكون بعيدةً إلى حين، بأقصى ما أمكن، بأكثر ما أمكنني، بانتظار مرور عاصفةٍ تُنذر بالأسوأ، وتُخيفني أيّما خوف. لا يحقّ لي أن أبقى، أردّد في سرّي محاولةً إقناعي. لا يحقّ لي أن أُشرك طفلةً في هذه الفاجعة، أن أغلق أفقها، أصمّ أذنيها، أقطع عنها الهواء. بلى، ثمّة سماواتٌ أخرى يمكن الركون إليها والعيش تحتها بأمان، ثمّة حياة سويّة في مكان آخر، مساحاتٌ للّعب، للتعلّم، للمعرفة، للفرح، لاختراع ألوان. عامان ورأس ابنتي في الزجاج وفي مربعاتٍ مضيئةٍ تحملها في جولاتٍ على بلدانٍ افتراضيةٍ، حيث تكوّن صداقات افتراضية. عامان لا أكثر، وإذ بأولادنا قد صاروا غرباء عنّا، يرطُنون بلغةٍ غير لغتنا، ويعيشون غير ثقافتنا، وينظرون إلينا كما لو كنّا من الديناصورات، فكيف بهم ونحن نعيش فعلا في بلاد تحكمها ديناصورات؟
اليوم، أركب الطائرة مبتعدةً. لا أذهب في عطلةٍ صيفية، ولا أهاجر. هذا ما قلتُه لأصحابٍ لم أودّعهم، وودّعوني غصبًا عنّي كأنّهم لا يصدّقون. كان في أحاديثنا شيء من المخاتلة، كأن يقولوا لي لن تطيلي الغياب وسترجعين، لأن الأمور لا يمكن أن تبقى على سوئها هذا لوقتٍ طويل بعد، أو كأن يهزّوا رؤوسهم بحزنٍ بادٍ، بحزنٍ مضاعف، واحد لفراري من أتون هذا الجحيم وآخر لمصائرهم القاتمة ولبقائهم متروكين. هتفت "ر" مستنكرة: راحلة؟ مرة أخرى؟ لقد رددتِني عمرا إلى الوراء، أتذكُرين؟ أجل أذكر. حتى أنني حين عدتُ من عشر سنوات، لم أعد فعلا وبقيت متأهّبةً مستنفرةً، كمن يجلس على طرف السرير، مستعدّا للوثوب في أية لحظة. وحين بدأت آمن وأقتنع وأسترخي، جاء الانفجار الكبير. هذا ليس رحيلي الأول، صحيح، وهو ما يزيد قهري ويجعل غصّتي قاسيةً كحجرٍ يصعب ابتلاعه.
أسأل ناي رأيَها، هي ابنة العشر سنوات، فتهزّ رأسَها موافقةً أخيرا، أجل ماما، يجب أن نسافر، مدعّمةً رأيها بشواهد لا تقبل الدحض. من أين أتتها كل تلك الحكمة، لتقول لي إن التأجيل ما عاد ينفع، وإن رحيلنا فترة قد حان، مضيفة أنها فهمت كل شيء: أزمة البنزين وأزمة الغذاء وكارثة انفجار المرفأ وسواه، وحده الدولار يستعصي عليها، صعودُه وبلوغُه أرقاما يشهق لها الناسُ، ويجعل حتى شراء لوح شوكولا معضلة كبرى. أبتسم ولا أعرف بم أجيبها، ثم أغامر قائلة: لعل المشكلة أنه ليس عملتنا الوطنية، وما كان يجب أصلا التعامل به.
اليوم، أركب الطائرة. لا أذهب في عطلةٍ صيفية، ولا أهاجر. أمسك يدَ ابنتي الصغيرة، وأتقدّم بها. هي لا تُمسك دموعَها ولا أنا أمسكها. هذا رحيلها الأوّل. لا تخافي، ستكون لك حياة جديدة هناك، وهمومٌ بمقاسك لا أكبر. حقائبنا تجرجرنا وراءها، فيما يدعونا رجل شركة الطيران إلى الإسراع. نتلفّت حولنا. الوقت فضفاض، الوقت قماشةٌ تهلهلت يحرّكها هواء المكيفات الآسن. نرحل كثيرين، قليلين، من دون أرواحنا التي بقيت خلفنا متشبّثةً بدرابزين الشرفة، بشجرةٍ على الطريق، وبغيمةٍ شفيفة عابرة في سماء خالية من الغيوم. نرحل فقراء، مكسورين، تعبين، غير قادرين حتى على إلقاء تحيّة وداع. كأنه الزمن الدائري لا يني يعيدنا إلى نقطة الانطلاق، عمرا إثر عمر، جيلا بعد جيل، ونحن في داخله كفئران التجارب، نلهث داخل الدولاب .. وإذ يزداد علوّنا في السماء، يلوح ندمُنا المقبل ويتقافز شعورُنا بالذنب على الشاشة أمامنا. كيف استطعنا ترك كلَّ من نخاف عليهم من العتمة القادمة، وهل فعلا ستبقى البلاد لنعود إليها؟ يا الله، وأولئك الذين انتزعوا مخالبنا وسمّموا عيشنا وسطوا على أرزاقنا، كيف تركناهم هكذا بلا حساب؟