اليوم الثاني: غزة تدير العالم
تنشغل كل الأطراف بمسألة إدارة قطاع غزّة في اليوم التالي لوقف القتال، وكأن العالم اكتشف للتو منطقة جغرافية مجهولة، وبدأ في توزيعها على المكتشفين، والبحث عن طريقة لإدارتها ومباشرة الولاية عليها.
ينشط المحتل الصهيوني في محاولة فرض رؤيته لحدود غزّة ومساحتها، وطبيعة السلطة التي تتولى إدارة شؤونها، وهي الرؤية الاستعمارية التي تتدرّج من ضرورة إعادة احتلال القطاع وإخضاعه لسلطة الاحتلال، كما يريد اليمين الصهيوني المتطرّف، أو انفراد إسرائيل باختيار ائتلاف دولي يدير شؤون القطاع ويضم أوروبيين وعرباً، كما يريد عضو مجلس الحرب، بنيامين غانتس.
العرب الذين يتعجلون نهاية الحرب لكي يصعدوا إلى قطار التطبيع، أيضاً، مهمومون باليوم الثاني بعد وقف القتال، من دون أن تكون لديهم رؤية عربية واضحة وخالصة، بعيدًا عن التصوّرات الأميركية الإسرائيلية للخطوة التالية. وهنا تجتمع كل الرؤى على نقطة مشتركة، وهي تجاهل وجود أهل القطاع طرفاً رئيسيّاً ووحيداً في اختيار السلطة التي تدير شؤونهم، والتي هي، بالطبع، لن تكون سلطة وطنية تولد من رحم الإرادة الشعبية، وليست سلطة يعيّنها الاحتلال وداعموه، كما لا يمكن أن تكون سلطة محمود عبّاس.
لا يريد العدو وداعموه وأصدقاؤه العرب أن يقرأوا ما بعد "طوفان الأقصى" على الوجه الصحيح، ولا يستطيعون أن يفهموا أن عكس ما يريدون فرضه بالقوة هو الواقع الصحيح، الذي يقول، بكل اللغات، ويؤكد بكل المعطيات أن غزّة، بصمودها الأسطوري ومقاومتها الباسلة، فرضت معادلات سياسية وأخلاقية جديدة على العالم، إلى الحد الذي لن تكون مبالغًا معه لو قلت إن غزّة هي التي ستدير العالم في اليوم الثاني بعد انتهاء العدوان، بل إنها تدير العالم من الآن بالفعل، وتغيّر فيه، وتنفض الغبار المتراكم فوق التاريخ المزوّر المفروض بقوة الاستعمار العسكرية والإعلامية.
انظر إلى غرب العالم وشرقه وجنوبه وشماله، من أميركا إلى اليابان وأستراليا، ومن دول اسكندنافيا إلى جنوب أفريقيا، ستدرك من دون جهد أن غزّة هي التي تدير الكوكب الآن، على الأقل تديره أخلاقيًاً ومعرفيًا وإنسانيًا، وتُحدِث ثورة حقيقية تصنع أجيالًا جديدة من قادة المستقبل، متحرّرين من سطوة الروايات الكاذبة للقضية.
سياسيًاً، لا يمكن تجاهل أن معركة الصمود الفلسطيني الجارية نسفت كل اتفاقيات الإذعان والخضوع التي فرضتها واشنطن على العرب والفلسطينيين، ومنحت بها الكيان الصهيوني وضعية الاحتلال المريح منخفض التكلفة، فما عادت "أوسلو" تقنع أحداً، بما في ذلك الاحتلال الذي يتصرف متحرّراً من أي التزام أو توقيع على اتفاق، وكذا الشعب الفلسطيني الذي أدرك فداحة الاستسلام لغواية السلام المزّيف، الذي حملته "أوسلو" وملاحقها عام 1994 ويدور به العرب على كل الموائد بمبادرة كتبها الصهيوني المخلص توماس فريدمان في العام 2002، وأطلقوا عليها "مبادرة السلام العربية" يقفون بها على أبواب الكيان الصهيوني منذ 22 عاماً من دون أن يعيرهم اهتماماً.
يعبّر الاحتلال كل يوم عن احتقاره فكرة "حلّ الدولتين" التي يطارده العرب بها، وكيف يلتفت إليها ولديه توقيع على أوسلو وملاحقها، أكثر من 2500 كلمة لم يرد فيها أي ذكرٍ لإقامة دولة فلسطينية، بل فقط اعتراف بمشروعية الاحتلال مقابل اعتراف بمنظمّة التحرير ممثلًا للشعب الفلسطيني.
طوال الوقت، كان أقصى تنازل يمكن أن يقدّمه بنيامين نتنياهو لافتة دولة فلسطينية منزوعة السيادة منزوعة السلاح، ترضى بالعيش في كنف الاحتلال، وهو ما ظلّ يتحدّث به منذ العام 2009 حين قال إن دولة منزوعة السلاح أمر ضروري يتماشى مع الواقع الحقيقي السائد في الشرق الأوسط، ويشكّل إطاراً عقلانياً ومسؤولاً للتسوية.
الآن، لا يقدم نتنياهو تنازلات، بل يتشدّد ويتوهم قدرته على فرض واقع جديد، يقول إن حدود الاحتلال ممتدّة ومفتوحة لتشمل أية منطقة عربية يمكن أن تمثل تهديداً له، وبالتالي، يمنح نفسه حقّ الانفراد برسم وتعديل وتغيير خريطة الشرق الأوسط كله، لكن الصمود الفلسطيني المقاوم في غزة يواصل إسقاط كل هذه الأوهام، ويؤكد أنه ليس قادرا على إدارة القطاع فقط، بل إدارة كل معادلات العالم السياسية، الآن وفي المستقبل.