انتخابات الكنيست وسيلةً فلسطينيةً في مواجهة المشروع الصهيوني
تتفاوت الآراء عن توجهات قطاع من الشعب الفلسطيني في الداخل لمقاطعة انتخابات الكنيست، المرتقبة غداً الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني، مقابل المشاركة الكاملة... وهنا يمكن التأشير إلى أنّ هناك شبهاً كبيراً بين وضع الجمهوريين في أيرلندا الشمالية ووضع الفلسطينيين في إسرائيل، سواءً لناحية الانتماءات السياسية أو الدينية. كلا الشعبين يعتبران السلطة الرسمية قوة احتلال غاشم تحكم بقوة الأجهزة الأمنية والعسكر وتعاملهم، أي الشعب الأصلي، على أساس أنهم أعداء. الشعبان يريان، ولو حتى في الفضاء الخاص، أنه ليس هناك فرق كبير في سبب الوجود والممارسة والأهداف بين المؤسسة (والسلطة) الرسمية البريطانية في أيرلندا الشمالية ونظيرتها الإسرائيلية في فلسطين. كلتاهما تعملان على تثبيت حكمهما وتسلطهما على شعبٍ محتل بهدف إخضاعه وتذويبه في هوية المحتل. الحالة الفلسطينية أسوأ بكثير من الحالة الأيرلندية، حيث يواجه الفلسطينيون، الشعب الأصلي، نظاماً إحلالياً عنصرياً كولونيالياً مبنياً على مبادئ الأبرتهايد السافر.
ومع أنّ الشعبين تعاملا، كل بطريقته، مع السلطة الرسمية، إلّا أنّهما استفادا، في الحالتين، من مساحة قانونية متوفرة للمشاركة في الانتخابات المحلية والبرلمانية، مع تباين في مدى استغلال تلك المساحة الديمقراطية عند الشعبين وكيفيته، فبينما كان هناك انخراط شبه كامل في المؤسسة الإسرائيلية من الممثلين الفلسطينيين في الكنيست تحت وهم الممارسة الديمقراطية والحصانة البرلمانية لتحسين حقوق مواطنيهم وتحصيلها، لم ينخدع الجمهوريون الأيرلنديون، وظل الحزب الجمهوري الأيرلندي (الشين فين) المعروف بمقاومته الحكم البريطاني في أيرلندا الشمالية، يطالب بانضمام الإقليم إلى جمهورية أيرلندا. ومع أنه (الشين فين) يمارس نشاطه السياسي في أيرلندا الشمالية منذ تأسيسه عام 1905، فإنّه يدفع مرشّحين في انتخابات البرلمان البريطاني بصفتهم الفردية، وليس ممثلين عن حزب أو إطار سياسي يرشّح ممثلين عنه في الانتخابات البرلمانية. أضف إلى ذلك أنّ الفائزين من مرشّحيه للبرلمان لا يشاركون في جلسات البرلمان مناقشاته في لندن. قد يبدو الأمر لبعض المراقبين غريباً أو عبثياً. ما الفائدة من دخول الانتخابات البرلمانية إذا كانوا لا يريدون أن يجلسوا في البرلمان ويمارسوا دورهم في تمثيل مصالح الذين انتخبوهم؟
النخبة الفلسطينية في القارب نفسه، والموقع نفسه بالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية، وهذا يكفي لتشكيل قاعدة أساس في التعامل مع السلطة الإسرائيلية
عمل الأيرلنديون بناء على رؤية وقناعة واضحة وثابتة عندهم أنّ السلطة الرسمية لا يمكن أن تعاملهم بوصفهم مواطنين متساوين، من دون إجبارها على ذلك. كانت مشاركتهم في الانتخابات نابعة من قناعتهم بأنّ شعبهم لا يُترك من دون تمثيل ولا يدّعي غيرهم تمثيله. بانتخابهم عن طريق انتخابات رسمية تنظمها السلطة ثبتوا حقهم في التمثيل الذي لا تستطيع السلطة الرسمية تجاهله أو الطعن فيه، وأجبروا السلطة على الاعتراف بهم، والتعامل معهم ممثلين حقيقيين وشرعيين لشعبهم. بعد تحقيق ذلك الهدف، يجعلون من هموم الناس ومطالبهم مجالاً للاشتباك مع السلطات الرسمية من بعيد، لا من العاصمة (لندن)، حيث دواليب ومكاتب سلطة بيروقراطية تقدّم الوعود بحلّ مشكلة ما فردية، من دون إجراء أي تغيير جذري وحقيقي في نمط التفكير والتعامل من المؤسسة الحاكمة. لقد أدّت قيادة "الشين فين" مهمة نضالية حقيقية لشعبها، ما ساهم في تعزيز قواعد قيادتهم شعبهم، وبنت على تلك القواعد تراكمياً، حتى أجبرت الحكومة البريطانية على توقيع اتفاقية الجمعة المباركة مع الحكومة الإيرلندية، الممثل الرسمي الحاضن للشعب الأيرلندي في 10 إبريل/ نيسان 1998. ونتج عن الاتفاقية نقل السلطة من الحكومة المركزية إلى الإقليم وتنصيب حكومة ذاتية من ممثلي سكان الإقليم المنتخبين مباشرة بدون تدخل الحكومة المركزية. ومن أهم قوائم الاتفاقية تثبيت مبدأ "التساوي في الاحترام" (Parity of Esteem) الذي يعدّ من أهم مبادئ السياسة العامة التي تبني عليها العلاقات بين الشعوب والجماعات في حيز جغرافي مشترك، أو كيان سياسي واحد.
في الحالة الفلسطينية، حتى عندما وقعت اتفاقيات أوسلو في 1993، وأعلنت القيادة الفلسطينية تنازلها عن 87% من فلسطين التاريخية وشعبها، وبعد كل هذه السنين من التجارب الفاشلة للوصول إلى تسويةٍ ما مع الاحتلال، لم يبرز مثل ذلك الوعي الأيرلندي عند الفلسطينيين في إسرائيل، ولم يقع توافق، ولو بسيطا، عند النخبة التي رأت نفسها مؤهلة لتمثيل شعبها أمام المؤسسة الإسرائيلية. مع أنّهم جميعاً في القارب نفسه، والموقع نفسه بالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية، وهذا يكفي لتشكيل قاعدة أساس في التعامل مع السلطة.
حزب التجمّع الوطني الديمقراطي أول من طرح مطالب جريئة على مبدأ "التساوي في الاحترام"، مثل "الحكم الذاتي الثقافي" و"دولة المواطنة" الكاملة
كان التمثيل الفلسطيني، في البدايات، بعدة أعضاء من خلال أحزاب صهيونية، أو بدعم من أحزاب صهيونية، قبل تنظيم قوائم عربية مستقلة. تراوحت مطالبهم بين الاعتراف بالدولة والاندماج الكامل في المؤسسات الإسرائيلية والمغالبة على الحقوق من داخلها، إلى البرنامج السياسي لحزب التجمّع الوطني الديمقراطي الذي كان أول من طرح مطالب جريئة على مبدأ "التساوي في الاحترام"، مثل "الحكم الذاتي الثقافي" و"دولة المواطنة" الكاملة.
وبالنظر الى تجربة "الشين فين"، يبدو أن هناك ضرورة للمشاركة في الانتخابات والانتظام في مؤسسات تمثل الشعب أمام السلطة. توفّر حالة التشرذم السياسي للأحزاب الصهيونية ودورات الانتخابات المتقاربة فرصة للأحزاب العربية لاستغلال ثقلها لتحقيق مطالبها وتلبية تطلعات جمهورها. وهكذا الدائرة، كلما تحسّنت ظروف الشعب، زادت ثقته بالانتخابات وممثليهم، ما يزيد نسبة المشاركة، ما يؤدّي إلى زيادة الأعضاء المنتخبين، والذي يؤدّي الى تقوية موقفهم أمام السلطة وتحصيل مزيد من الحقوق.
يعود القرار بالمشاركة في الكنيست أو عدمه، ونجاعة هذا وذاك، للأحزاب نفسها، فيما مقياسه برنامجها الانتخابي. من المهم جداً أن تكون الأحزاب على مستوى من الوعي والمسؤولية، بحيث تبقى مخلصة لبرنامجها الذي انتخبها الناس على أساسه. مخطئٌ من يظن أن الجماهير تنسى. حين ينتخب الناس يوقعون على ميثاق مع ممثليهم الذين انتخبوهم، أنهم سينفذون وعودهم بعد انتخابهم. وهناك أحزاب عربية لا تمتلك سمعة جيدة في هذا الجانب، وتنسى وعودها وتنكث بها بعد الانتخابات. أقول الانتخابات فقط، لأنه محسوم أن هذه الأحزاب لا تصل إلى السلطة، وحين حصلت على ما يمكن وصفه ثقلا برلمانيا لتؤثر في تشكيل الحكومة دخلت في دوّامة الصفقات بين الكتل البرلمانية الصهيونية بدون مرجعية، ولا انتباه إلى أن ذلك السلوك ضارٌّ جداً بسمعة تلك الأحزاب وثقة منتخبيها بها، وستعاقب عليها في الجولة المقبلة. زد على ذلك أن ذلك الثقل البرلماني لم يؤتِ أُكُله بتحصيل حقوق الناخب الفلسطيني أو الدفاع عنها بنجاح. لم يكن في ذهن الناخبين الفلسطينيين أن بعض ممثليهم الذين انتُخبوا، ولأول مرة، في قائمة مشتركة، وعلى برنامج وطني بامتياز سوف يوصون بأن يشكل الحكومة الجنرال غانتس، وهو مجرم حرب. يُحسن "التجمّع الوطني" في أنه ينأى بنفسه عن تلك الخطيئة، ويكفيه أنّ توصية أولئك لم يُؤخذ بها، ولم يحصل أصحابها منها على ما كانوا يأملون، وبقي عليهم أن يرمّموا ما بقي لهم من قيمة عند شعبهم.
التاريخ البرلماني لإسرائيل كان وما زال متشرذما، ونادرا ما تحصل قائمة واحدة على عدد مقاعد يكفي لتشكيل حكومة مستقرّة
يجب الابتعاد عن الخوض في لعبة المؤسسة الصهيونية بجرّ الأحزاب العربية إلى مسرحية الترشيحات لتشكيل الحكومة بدون مقابل، وفقط لإرضاء الذات والانتفاخ أمام الجمهور والكاميرات بأن الرئيس يدعوهم إلى التشاور معهم ثم يتجاهلهم. هو يحصّل مأربه بتحسين صورة دولته العنصرية وتعزيزها، وهم يعودون بخُفيّ حُنين، بعد أن خذلوا جمهورهم. وذلك فيما التاريخ البرلماني لإسرائيل كان وما زال متشرذما، ونادرا ما تحصل قائمة واحدة على عدد مقاعد يكفي لتشكيل حكومة مستقرّة. دائما هناك صفقات تجرّ الحكومة والدولة إلى اليمين المتطرّف الذي ازداد قوة بسرعة ملحوظة في السنوات الأخيرة. وبعد سن قانون القومية اليهودية في عام 2018، لم يبق عند أي حكيم مجال للشك في أن أي قائمة عربية، مهما كان ثقلها، لن تغير من برنامج المؤسسة الصهيونية أو سيرها إلى القطيعة مع الفلسطينيين في الداخل والخارج. لقد وصلت هذه المؤسسة إلى درجة من "الخوتصباه" (الوقاحة أو الصلف) أن تعتبر الفلسطينيين من مواطنيها أعداء وممثليهم في الكنيست جزءا من ديكور المؤسّسة فقط لا غير، "تعايرهم" و"تتجمّل" عليهم الانتفاع منها وتستخدمهم في ترويج "الدولة الديمقراطية" التي تدّعيها إلى العالم بدون أي التزام حقيقي أو ثمن حقيقي تقدّمه لوجودهم فيها سوى الفتات أو سقط المائدة.
الرد الحقيقي من الشعب الفلسطيني صاحب الأرض لا يكون بمقاطعة انتخابات الكنيست، لعدم الجدوى واليأس، وإنما المساهمة الفاعلة في الانتخابات، وتثبيت حقه الطبيعي في انتخاب من يمثله، وانتخاب أكثر عدد ممكن من ممثليه الذين يحملون همومه ويدافعون عن حقوقه أمام مؤسسات الدولة العنصرية وأمام المجتمع الدولي. والمواجهة مع نظام الأبرتهايد مسيرة شاقة وطويلة النفس. دائمًا تبدأ بالوعيين، الفردي والجمعي، بالذات، وعناصر القوة المتوفرة، وأولها صوت المواطن والاستعداد للتضحية.
عودًا على بدء، كما نجح السود في أميركا وجنوب أفريقيا بالقضاء على العبودية والغاء قوانين التمييز العنصري، نجح الأيرلنديون بصبرهم وتضحياتهم وبثباتهم على موقفهم في الوصول إلى أهدافهم بتثبيت وحدة وطنهم، وتحصيل وتحصين حقوقهم قانونيًا وباتفاق ذي قيمة دولية. وحين تفاوضت بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي على اتفاقية الخروج منه، لم تستطع وضع حدود جغرافية بين جنوب أيرلندا وشمالها، بسبب اتفاقية الجمعة المباركة. الشعب الفلسطيني يبقى واحداً، ويجب أن يكون موحّداً في مواجهة المشروع الصهيوني. كلّ مكان له وسائله، وانتخابات الكنيست هي إحدى تلك الوسائل. لديه في الداخل الفرصة الآن، ويجب أخذها بقوة الإرادة.