انتخابات في حزب البعث!
كمَن يتذكّر رداءً قديماً، حضر بشّار الأسد في منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي اجتماع اللجنة المركزية لحزب البعث، وكمن تلقّى جرعة منشّطة، ارتفعت في إعلام النظام في سورية وتيرة الحديث عن الحزب ودوره وعلاقته بالمجتمع، وتهيأ أعضاءٌ حزبيون للانتخابات. وفي جزء من النشاط المفاجئ للحزب، عَقَدَ بشّار، وتحت العناوين نفسها، اجتماعا آخر قبل أيام، مع ما سميت كوادر حزبية مثقفة، في موازاة انتخاباتٍ داخليةٍ يقوم بها الحزبيون، ويختارون قياداتٍ مختلفة المستويات. ناقش بشّار مع مثقّفيه العملية الانتخابية الجارية، وما إذا كانت هذه الانتخابات ستنتج وجوها جديدة ومختلفة، وكان تأكيدُه في الاجتماع أن الهدف النهائي هو الممارسة ذاتها، لا الأسماء التي ستنتج عن الانتخابات. ولم ينسَ التذكير بأن الحزب هو الحاكم وما زال يملك الصلاحيات التشريعية والتخطيطية نفسها للمجتمع، ومن واجب الحكومة تنفيذ ما يُقدَّم لها من خطط يُعِدّها الحزب الحاكم! وفق عملية شكلية، وتحت عناوين الممارسة الديمقراطية بالانتخاب، أكّد بشّار أن المهم هو العملية ذاتها، وكأن الحزب مرهون بوضع ورقة في الصندوق كل عدة سنوات ليبرهن على وجوده.
عُقد آخر مؤتمر قومي للحزب في سورية، وهو يحمل الرقم 15 عام 2017، لمدة يوم، ولم يحضُره بشّار الأسد، حَلَّت فيه القيادة القومية نفسها واستعيض عنها بمجلس قوي يجتمع دورياً، ولكنه لم يجتمع ولا مرّة! وكان المؤتمر القومي الذي سبقه، ويحمل الرقم 14، قد عقد عام 1980، أي قبل 37 عاماُ، ما يشير إلى قطيعة قوميّة مات خلالها الأمين القومي حافظ الأسد، وظلّ مكانُه شاغراً حتى حلّ القيادة القومية. وعلى الصعيد القُطري، جرى آخر مؤتمر عام 2005، ولم يشعُر الحزب لاحقا بالحاجة إلى عقد مؤتمر قُطري خلال الحدث السوري الكبير، وخروج مساحات واسعة من الجغرافيا السورية عن سيطرة النظام، وكذلك لم يشعر أنه في حاجة إلى اجتماع آخر عندما وُجّهت "ضربة" دستورية إليه بإزالة اسمه من الدستور السوري، فقد كان الحزب، ومنذ دستور عام 1973، قائدا للدولة والمجتمع، ولم يعد كذلك بموجب دستور 2012.
ذُكر اسم حزب البعث عام 1973 في مقدّمة الدستور ثلاث مرّات، للتوكيد على دوره الكبير، ونصّت المادة الثامنة على أن القيادة القٌطرية للحزب هي من يرشّح رئيس الجمهورية! وعلى عموم الشعب الاستفتاء على هذا الشخص، من دون أن يكون لهم حقّ التسمية، وقد أصبح ذلك كله خارج دستور سورية الجديد الذي دُشّن بعد عام من بدء الانتفاضة السورية.
دُفنت آخر شعائر الأيديولوجيا السياسية مع خراب الاتحاد السوفييتي، وتفكِّك دوله ومنظومته وعقائده وتحلّلها، وقد شعر حزب البعث بذلك، فأصبحت مؤتمراته القومية والقُطرية نادرة، بعد أن كان يُنظر إليه مرجعيةً سياسية يستمدّ منها حافظ الأسد شرعية حكمه، مدعّمةً طبعا بأفرع المخابرات والهيمنة على الجيش، وكانت العائلة تتحرّك من خلف الستار لتمارس السياسة والحكم. وقد ظهر ذلك بوضوح في مناسبتين مفصليتين في تاريخ سورية: الأولى في الصراع العائلي على الحكم بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت، والثانية عندما انتقل الحكم من الأب إلى الابن، من دون أن يكون للحزب دور في كلا المناسبتين. وكانت القيادات الحزبية تقف متفرّجة، بل خلت أدبيات الحزب تماماً من أي إشارة إلى ما حدث، وفضّلت أن تدفن رأسها في الرمال على أن تذكُر شيئاً مهماً كهذا.
الآن، بعد أن نسي سوريون كثيرون حزب البعث، يريد بشّار الأسد أن ينفُض عنه غبار الزمن ليبيعه مرّة أخرى، وقد تجاوز عمرُه الافتراضي بعشرات السنين، حيث يمكن القول إن الحزب قد انتهى حين أسدل الستار على المؤتمر القُطري الثامن عام 1985، ولم يكن مؤتمرا العامين 2000 و2005 إلا تكريسا لبشّار الأسد من دون أن يكون للحزب أي معنى أو هدف آخر.