انتخابات نقابة المحامين في غزة .. وجامعة بيرزيت
أدّى التزامن بين انتخابات نقابة المحامين في قطاع غزة وانتخابات مجلس طلاب جامعة بيرزيت في الضفة الغربية إلى الربط بينهما، والسعي إلى قراءة النتائج في كليهما، ووضعهما في سلة واحدة، رغم الاختلاف الكبير والشاسع بينهما في السياق، والحيثيات، وبالطبع النتائج والتداعيات على المشهد الفلسطيني العام، مع قبول فكرة تأكيد الانتخابات في غزة والضفة لحيوية الشعب الفلسطيني، وتوقه إلى صندوق الاقتراع والحسم الديمقراطي نقابياً وطلابياً وجماهيرياً ووطنياً بشكل عام.
إذن، فازت حركة فتح بزعامة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، في انتخابات نقابة المحامين في غزة بمواجهة قائمة الفتحاوي المفصول، محمد دحلان، وأخرى قادتها حركة حماس بشكل أساسي وضمّت الجبهتين الشعبية والديمقراطية وحركة الجهاد الإسلامي، حيث نالت "فتح" قرابة 45% من الأصوات مقابل 18% لدحلان و28% لـ"حماس" والحلف المعارض، أو المقاوم كما يحلو له أن يصف نفسه، مع الانتباه إلى حقيقة عدم اتباع النظام النسبي في النقابة، ما يفسر نيل قائمة حركة فتح الرسمية كامل المقاعد الستة في مجلس النقابة.
لا بد من الانتباه كذلك إلى أننا أمام انتخابات نخبوية محدودة لشريحة معينة في نقابةٍ، قامت حركة فتح بتأسيسها واحتفظت بنفوذ كبير فيها، وتحكّمت بها، طوال الوقت، خصوصاً أن كلية الحقوق الوحيدة في غزة تتبع جامعة الأزهر التي تهيمن عليها "فتح" وسلطة رام الله بشكل تام إدارياً ومالياً، وتعدّ أحد معاقل "فتح" الرئيسية هناك مقابل الجامعة الإسلامية، معقل "حماس" التي تملك كلية شريعة وقانون، لا حقوق بالشكل المتعارف عليه.
كانت لافتةً منافسة تيار المفصول دحلان قائمة حركة فتح الرسمية وحصوله على 18% من عموم المقترعين في انتخابات نقابة المحامين في غزة
لفهم نتائج هذا العام أيضاً لا بد من الإشارة إلى أن "فتح" اعتادت الفوز وبسهولة في الانتخابات المتفرقة للنقابة، وبنسبة 70% تقريباً من الأصوات، بينما حصل تراجع واضح هذه المرّة، حيث حازت القائمة الرسمية للحركة على نسبة 44%، أي أقل من نصف أصوات المقترعين البالغ عددهم 2400. ولو اتبع النظام النسبي الكامل، كما تطالب "فتح" نفسها والفصائل، حركة حماس باتباعها في الجامعة الإسلامية والاستحقاقات الانتخابية النقابية والوطنية بشكل عام، لما نالت "فتح" كامل مقاعد المجلس، ولذهبت الأغلبية حتماً إلى اللوائح الثلاث المتنافسة التي حصلت على 46% من الأصوات.
كانت لافتةً، بالطبع، منافسة تيار المفصول دحلان قائمة الحركة الرسمية وحصوله على 18% من عموم المقترعين، أي أكثر من ثلث الأصوات الفتحاوية في النقابة، وهي نسبة تعكس حجم شعبيته بمعقله الرئيسي، بظل حرية الحركة الكاملة الممنوحة له من سلطة "حماس" في غزّة بشكل عام، مقابل حضور ضعيف جداً ومحدود في الضفة الغربية، وملاحقة أمنية مستمرّة لتياره من أجهزة السلطة الأمنية في رام الله، وهذا ما أدّى، ضمن أسباب أخرى، طبعاً إلى عدم منافسته في الانتخابات الطلابية لجامعة بيرزيت.
تنافست في جامعة بيرزيت مباشرة الأجنحة الطلابية لحركتي فتح وحماس والجبهتين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب
عموماً، وقياساً إلى النقابة وتاريخها وتوازن القوى فيها، يعدّ فوز التحالف الرباعي بقيادة حركة حماس في أول تنافس جدّي له بنسبة 28% من عموم المقترعين في بيئة أو بيت فتحاوي خالص نتيجة لافتة جداً، وما يفوق ذلك أهميةً ربما القاعدة السياسية للتحالف الذي يظهر، من جهة أخرى، ابتعاد "فتح" الرسمية، تيار السلطة فيها، عن باقي الفصائل وحلفائها التاريخيين وعزلتها أو انفصامها عن الساحة السياسية والحزبية بشكل عام، كما في النتائج الصادمة للحركة في جامعة بيرزيت.
هذا ينقلنا مباشرة إلى انتخابات المجلس الطلابي للجامعة الفلسطينية المرموقة والمعقل الوطني الأكاديمي والديمقراطي والتي مثّلت انتخاباتها تاريخياً تيرمومتر لقياس الرأي العام والاتجاهات السياسية في الشارع الفلسطيني، خصوصاً أن الجمهور الطلابي يمثل كل الشرائح السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان عدد المقترعين قد بلغ تقريباً أربعة أضعاف من شاركوا في الانتخابات النقابية النخبوية في غزة.
تنافست في جامعة بيرزيت مباشرة الأجنحة الطلابية لحركتي فتح وحماس والجبهتين الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب، مقابل غياب لافت وغير مستغرب لحركة الجهاد الإسلامي التي باتت أقرب إلى مجموعة أو تنظيم عسكري، وكذلك المبادرة الوطنية التي تراجع حضورها وتأثيرها في الشارع الفلسطيني، رغم تنافسها في معظم الانتخابات الطلابية قبل توقفها سنتين تقريباً بسبب جائحة كورونا.
لا شك في أننا في جامعة بير زيت أمام عقاب لحركة فتح، بوصفها حزب سلطة، لا تملك برنامجاً واضحاً متماسكاً يمكن الدفاع عنه
لم يحدُث التحالف هنا بين "حماس" وحلفائها الجدد، بسبب اختلاف الواقع بين الضفة الغربية وقطاع غزة، أو بسبب النظام النسبي العادل، والذي يكفل تمثيل معظم الكتل في المجلس الطلابي، علماً أنه (التحالف) خصوصاً بين الجبهة الشعبية و"حماس" حضر في الانتخابات المحلية أخيراً، ولكن تحت رايات وأطر تكنوقراطية وجهوية وعائلية. وفي النتائج، حققت "حماس" ما يشبه الاكتساح، حيث حازت أكثر من نصف أصوات المقترعين، و28 مقعداً، وهي نسبة كبيرة جداً في نظام انتخابي نسبي، ولو اتبع نظام نقابة المحامين في غزة لنالت الحركة كامل مقاعد المجلس الـ51، بينما حصلت "فتح" على ثلث الأصوات تقريباً، و18 مقعداً وأقل من 10% من الأصوات وخمسة مقاعد للجبهة الشعبية، بينما لم تتجاوز الأطر الطلابية للجبهة الديمقراطية وحزب الشعب نسبة الحسم، على ضآلتها، 187 صوتاً، ما يعادل 1.5% تقريباً، ما بدا لافتاً وذا دلالة، خصوصاً أنه يحصل في جامعةٍ اعتبرت تاريخياً معقلاً أو أحد المعاقل الأساسية لليسار الفلسطيني.
في الأسباب، لا شك في أننا أمام عقاب لحركة فتح، بوصفها حزب سلطة، لا تملك برنامجاً واضحاً متماسكاً يمكن الدفاع عنه، أو إقناع الشباب والطلاب به، فلا هي بقيت حركة تحرّر وطني، ولا نجحت في مشروعها التفاوضي، الميّت سريرياً، فضلاً عن تحوّلها إلى منظومة استبداد وفساد، حتى وهي خاضعة فعلياً لسلطة الاحتلال ومشيئته، كونها سلطة بلا سلطة، كما اعتاد قادتها القول. وهنا أيضاً يمكن تصور شكل النتائج، لو خاضت المنافسة قوائم فتحاوية أخرى، كما جرى في نقابة المحامين في غزة، مع لائحة إضافية تابعة لتيار القيادي، الأسير مروان البرغوثي، الذي يتمتع بشعبية واسعة داخل الحركة، خصوصاً مع الذكرى السنوية لاعتقاله.
الحل دائماً بانتخابات نقابية وطلابية وحتى بلدية في غزة أيضاً تنتج أجواء مؤاتية للضغط باتجاه الانتخابات العامة
فوز "حماس" الكبير والساحق ليس مستغرباً أيضاً في ظل ارتفاع شعبيتها بشكل عام خلال العام المنصرم، تحديداً بعد معركة سيف القدس، وسعيها إلى القيادة أو إعطاء الانطباع بقيادة الموجة الحالية للمقاومة الشعبية المتواصلة والموجعة للاحتلال وتوجيهها. وتؤكد النتيجة أيضاً تراجع اليسار وحصوله ثلاث كتل مجتمعة، على أقل من 10% من الأصوات. وفي الشارع نسبة حضوره أقل من ذلك، ما يضع علامات استفهام بشأن أسباب عدم وحدة الكتل الطلابية، ما ينذر بعدم تجاوزها نسبة الحسم في استحقاقات الانتخابية العامة باستثناء "الشعبية" طبعاً التي يراوح حجم تأييدها بين %3 إلى 5%.
وفي التداعيات، لا شك في تأكيد النتائج فقدان قيادة السلطة الشرعية والدعم الشعبي، ولذلك هربت من الاستحقاق الانتخابي العام الماضي، وستواصل فعل الشيء نفسه، ما يعني، للأسف، أن لا انتخابات عامة في الأفق، كونها باتت بعيدة المنال، وبالتالي تكريس الانقسام الأساسي والجغرافي الحالي وتأبيده. وفي السياق تلاشي احتمال إدارة موحّدة للصراع مع الاحتلال، وفق استراتيجية وطنية جامعة. ولذلك يبقى الحل دائماً بانتخابات نقابية وطلابية وحتى بلدية في غزة أيضاً تنتج أجواء مؤاتية للضغط باتجاه الانتخابات العامة، خصوصاً مع أفول مرحلة الرئيس محمود عبّاس برمتها واقترابها من نهايتها.
في الأخير، لا بد من لفت الانتباه إلى الطابع الحضاري الديمقراطي للانتخابات الذي أكّده الشباب الفلسطيني، علماً أننا نتحدّث عن مجتمع فتيّ أصلاً، ما يمثّل، من جهة أخرى، شكلاً من المقاومة الشعبية، وإثبات الجدارة في مواجهة الاحتلال، ونقض روايته عن الشعب الفلسطيني، بزعم أنه لا يستحق التحرّر والسيادة والاستقلال وتقرير مصيره بنفسه في وطنه.