انتصارات الفريق المغربي وتلك اللامبالاة السورية

16 ديسمبر 2022

مشجعون مغاربة أثناء مباراة منتخبي المغرب وفرنسا في مونديال قطر (14/12/2022/Getty)

+ الخط -

ليست أمرا هامشيا تلك الظاهرة التي تكرّرت مع توالي انتصارات الفريق المغربي في مونديال قطر، وهي قلة تفاعل سوريين كثيرين في مناطق سيطرة النظام، والذين كان الأحرى بهم استغلالها لاكتساب بعض الحماس والبهجة، أو حتى الفرح الذي عمَّ جميع الدول العربية وغاب عنهم، وهم الأحوج إليه في ظل اليأس المقيم بينهم. كما أنه ليس بالأمر الهامشي ولا الهيِّن ألا ترى تعاطفهم مع هذا الفريق، وخمود مشاعرهم تجاه بطولة كأس العالم بشكل عام، لسبب واحد، أنها انتظمت في بلدٍ عربي كانوا قد توقعوا فشله في تنظيمها، فما بالك في تحقيق انتصاراتٍ عربية خلالها. هنا وجب التساؤل إن كان قد مسَّ هوية السوريين، أو حسّ الانتماء القومي الذي تميزوا به، خللٌ ما، أو استوطنت نفوسهم ردّاتُ الفعل السلبية التي يكرّسها إعلامهم ومحلّلوه السياسيون تجاه العروبة.

بعد افتتاح المونديال وسير المباريات وفق جداولها المقرّرة، تخلّى السوريون في الداخل عن حساسيتهم تجاهه وتجاه البلد المضيف الذي لا يمضي يوم إلا ويتناوله الإعلام الرسمي، سواء تلفزة أو إعلام إلكتروني، بالنقد، فواظبوا على متابعة المباريات بشغفهم المعتاد. ومع ذلك، لوحظ عدم تفاعلهم مع انتصارات الفرق العربية، واستمرّوا بهذه اللامبالاة حتى بعد تحقيق المغرب الانتصارات اللافتة؛ حين انتصر على بلجيكا بعد تعادله مع كرواتيا، وكذلك لدى انتصاره على كندا، ثم لعبه مع الكبار، إسبانيا والبرتغال، وإقصائهما. وقد كانة لافتةً لامبالاتهم تجاه فوزه على إسبانيا، بينما كان العرب في كل الدول العربية في قمة نشوة الفرح بذلك الانتصار، وكلّلوه يوم انتصر على البرتغال، وهو الانتصار المضاعف بسبب الرمزية التي يشكلها قائد الفريق البرتغالي كريستيانو رونالدو، بينما آثر السوريون، وللمفارقة، الاحتفال بفوز فرنسا على إنكلترا في اليوم ذاته، وخروجهم، قبل يوم، من المقاهي إلى الشوارع للاحتفال بانتصار الأرجنتين على هولندا.

استدعى موقف السوريين من مونديال قطر ومن انتصار الفرق العربية ما كان الإعلام السوري، وما زال، يردّده عن مسؤولية كبيرة تتحمّلها الدول العربية بسبب الحرب "الكونية" على سورية. ومنذ الأيام الأولى للنزاع، بدأ هذا الإعلام يكيل الاتهامات للدول العربية في تسهيل دخول المقاتلين لمحاربة الجيش السوري ولاستهداف النظام والدولة والسوريين. وزاد في الأمر حين شرع معلقون كثيرون يتبرّأون من العروبة ويسخرون من البادية والصحراء والبدو، ويسوقون توافه الكلام بإلصاق صورة الجمل مع صورة العربي في الخليج، متغاضين عن الإرث والرمزية اللتين يشكلهما الجمل لدى كل العرب، ومنهم السوريون، وعن التغيرات والتقدّم الذي استطاعت حكومات هذه الدول ومجتمعاتها الوصول إليه، بينما وقفت بلادهم عند خطٍّ زمني لم تستطع تجاوزه.

تشظّي الهوية العروبية لدى سوريين كثيرين يتبنّون كل ما يخرج به إعلامهم

وللأسف، كان لهذا الخطاب دوره في تشظّي الهوية العروبية لدى سوريين كثيرين يتبنّون كل ما يخرج به إعلامهم. وساهم في تشظيها، وفي حال الضياع في المواقف لدى مواطنين كثيرين بسطاء في مناطق النظام، ترديد هذا الكلام، ثم الانتقال إلى الحديث عن أن هدف الحرب دفع المواطن السوري إلى التخلي عن هويته العربية، ودفع سورية الى التخلي عن نهجها القومي ودورها الإقليمي، باعتبارها "آخر قلاع القومية العربية وقلب العروبة النابض". ولا ينسى هؤلاء التذكير بأن نفي الهوية العربية عن سورية سيحوِّل شعبها إلى طوائف وأعراق وقبائل ويساهم في تفكيكها. ولم يفهم دعوة المثقفين والمفكّرين إلى التصدّي لهذه المحاولات والدفاع عن عروبة سورية. وكان جديد ما جادت به الدلاء في هذا الصدد ما قالته المستشارة الرئاسية، بثينة شعبان، لوفد فلسطيني زارها، أواخر سبتمبر/ أيلول الماضي: "مواجهة التطبيع تكون بإحياء الحسّ القومي العربي"، أفلا يندرج التعاطف مع شعب المغرب والفرح لفرحه وإنجازه وتشجيعه ضمن حركة الإحياء العربي والقومي؟

وكان هذا الأمر قد تكرّر في الموقف من الشعب الفلسطيني وقضيته، فبسبب نأيهم عن القضايا العربية، لم يتعاطف سوريون كثيرون معه في الحروب التي شنتها دولة الاحتلال الإسرائيلي على غزة، ومع قضية أهالي حي الشيخ جرّاح المقدسي الذي كانت تريد سلطات الاحتلال تهويده، في حين تلقى تعاطفاً وتضامناً دوليين منقطعي النظير. كما كان التعاطف مع قضية اغتيال الصحافية في شبكة الجزيرة، شيرين أبو عاقلة، قليلاً، وفي أحسن الأحوال باهتاً. وقبلها كان الموقف ذاته من صفقة القرن التي رعاها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وبقي سوريون كثيرون في موقع الحياد منها ومن رفضها أو التنديد بها.

لوحظ عدم تفاعل السوريين في الداخل مع انتصارات الفرق العربية، حتى بعد تحقيق المغرب الانتصارات اللافتة

جاء النزاع الذي أعقب الحراك الشعبي سنة 2011 ليعزّز تعارض الولاءات في سورية، خصوصاً بعد الاستقطاب الخفي الذي شهدته البلاد قبل عقودٍ إثر ظهور الجمهورية الإسلامية في إيران في ثمانينيات القرن الماضي، والذي ازدادت حدّته مع الموقف المنحاز لإيران في حربها ضد العراق. وكان ذلك الأمر يمهد لصراع الهويات الذي انفجر مع انفجار النزاع الحالي، والذي تفاقم مع ازدياد الاستقطاب على الأرض السورية حدةً لم تُعرف من قبل. لذلك رأينا أن الاختلافات في المواقف بين السوريين على كل المستجدّات بدأت تظهر جليةً بين من يقيم في المنافي الطوعية أو الإجبارية، ومن يقيم في مناطق سيطرة النظام، بل وبين الذين يقيمون في مناطق النظام أنفسهم أيضاً. وهي الاختلافات التي أخذت تتكرّس وتتضح حول الهوية ومفهوم الوطن والمواطنة وشكل الحكم ومسألة المركزية واللامركزية، علاوة على موقع الدين في الدولة المعاصرة وشكل الدولة كذلك. أتكون دولة المواطنة التي تكفل الحقوق والمساواة والحرية للجميع، ويبتغيها أي سوري يتطلع إلى غدٍ خرجت الحناجر تطالب به قبل 11 سنة، أم دولة الاستبداد الديني أو الاستبداد السياسي التي لا تفعل سوى إعادة أبنائها إلى جذور الصراع وترحيل أي حلٍّ لحال الجمود القائم والتراجع المُطَّرد؟

كان الحدث الرياضي الذي صنعه الفريق المغربي فرصةً لهؤلاء لكي يتخلّصوا من آثار الخطاب الانعزالي الذي يريد بالسوريين النأي عما كانوا في قبله عقودا. وفرصة لأن يكونوا جزءاً من هذا الدفق الإنساني، ويتشاركوا المشاعر النبيلة التي تفجرت بين أبناء الدول العربية وجمعتهم على الفرح. كذلك فرصة لعودة روح التضامن لديهم، إقراراً منهم بهويتهم التي عُرفوا بها، والتي بتكريسها يكتسبون ورقة رفضٍ لواقع يزداد ضِيقه.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.