انفجار فقاعة الجنرال الشاحط.. أو "الشاحت"
في الذكرى الأولى لتعويم السفينة الشاحطة في قناة السويس، يشحط الجنيه المصري هذه المرّة، ويغوص في الأعماق، معلنًا انفجار فقاعة الأوهام التي أمضى الجنرال عبد الفتاح السيسي تسع سنوات، في تعبئتها وتلوينها، وإطلاقها في الهواء.
هي فقاعةٌ من الأكاذيب الواعدة بوطنٍ لا يمتّ إلى الواقع بصلة، ولا ينتمي إلى مواطنيه على أي نحوٍ من الأنحاء، على الرغم من أن هؤلاء المواطنين المسحوقين يعضّون على الانتماء الحقيقي، والإخلاص الصادق له بالنواجز، ويحفظون ودّه وترابه المقدّس، في الوقت الذي يتنكّر هو لهم.
تسع سنوات من الهراء المزركش بمهارةٍ فائقة، تنبعث منه أضواء خادعة، تُبهر العيون، لكنها لا تمسّ القلوب، مثلها مثل الأضواء الصناعية التي تكتسي بها أبراج دبي وأبو ظبي، في المناسبات الصهيونية.
تسع سنوات من العضلات المنفوخة، بالهواء الصناعي، والاستعراض التافه لقوة، أو بالأحرى أوهام قوة مستعارة، تنتهي بركاكة في الأداء، لبطل الملهاة وهو يقول للمخدوعين: "إحنا ظروفنا صعبة أوي .. خلوا الناس الطيبة تدعي ربنا يفرجها علينا".
يستجدي الجنرال المتغطرس عطف ضحاياه الذين خدعهم بشعارات الوطن الكبير "قد الدنيا" عبر مداخلة تلفزيونية، فيقول "أتمنّى إن إحنا كلنا كمصريين ومسؤولين نبقى عارفين إن اللي هيخفّف عن حد ربنا هيخفف عنه وهييجي علينا يوم ونقف قدّام ربنا ويمكن كلمة وشفاعة من أخت زي جيهان أو محروسة أو أي حدّ تاني تكون دي شفاعة طيبة، ويقولوا لما شافنا حاول يحل ويساعد".
وبعد التوقيع على قرار ذبح العملة الوطنية، وما سبقه، وما ترتّب عليه من انفجار في الأسعار، ورهن مساحاتٍ إضافية من خيرطة الوطن الاقتصادية والسياسية للمتربصين به يكمل "خلوا الناس الطيبة تدعي إن ربنا يفرجها علينا، ولما يفرج علينا هنفرج على الناس كلها مش هنسيب حد، إحنا ما وراناش غير كده".
منتهى الاحتقار لمفهوم الوطن، والإهانة للمواطن، تصويرهما طوال الوقت في حالة احتياج وتسوّل، وكأنه وطنٌ عاجز لمجموعة من أصحاب العاهات، يقودهم "معلم" يتسوّل باسمهم .. مصر أكبر من هذا بكثير، والمصريون أنبل من هذه اللغة التي لا تستخدم إلا في عالم التسوّل الاحترافي.
هل هذا كل ما لدى السيسي في مواجهة كارثةٍ هو صانعها الأول بمنتهى الدقة والإتقان في التنفيذ؟ بالطبع لا، فهناك ما هو أهم ولازم .. هناك الظهور الحتمي لأصحاب الشأن الحقيقيين، هناك صانعو هذا الخراب وزارعوه، الذين حضروا للاحتفال بالحصاد الكارثي في شرم الشيخ، رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني، الذي يبيت ليلته الأولى في فراش مصر، نفتالي بينيت، وولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، ممثلي الطرفين اللذيْن وضعا البذرة في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 وتعهداها بالرعاية والري، ووصلا إلى قطف الثمار في 2022.
يكمل بن زايد هيمنته على اقتصاد مصر وسياستها، بالإعلان عن الاستحواذ على البنك التجاري الدولي، وشركة "فوري"، والصهيوني يواصل السيطرة على النظام الحاكم في مصر، بعد عامين فقط من نجاحه في الاستحواذ على سوق الغاز، بصفقة حصل بموجبها على 19 مليار دولار من مصر، مقابل مد خطوط الغاز الذي يصدره الاحتلال، عبر الأراضي المصرية، بعد إسالته وإعادة بيعه إلى أوروبا والعالم .. هذه العملية تعنى، تقريبًا، أن مصر صارت على يد السيسي مجرّد واحد من منافذ بيع الغاز الصهيوني للعالم.
هل جاء الراعيان للاستثمار والحصاد فقط؟ على الرغم من أن المعلن عن لقاء شرم الشيخ أنه يركّز على إيران والاتفاق النووي، إلا أن الأقرب إلى الصحة أن الراعييْن جاءا استجابة لنداء استغاثة صادر من رجلهما في مصر، القبطان الأعمى الذي أوشك على الشحوط بسفينة ترسل أنوارها المبهرة من الخارج، لكنها متهالكة، وينخر فيها السوس والصدأ من الداخل، غير أن ذلك لا يقطع بأنهما راغبان أو قادران على انتشاله من الغرق.
يُنبئنا التاريخ أن الأوغاد السفاحين حين يشعرون بأنه رجالهم، المصنوعين على أيديهم وأعينهم، لم يعد لديهم ما يقدّمونه، فإنهم يحيلونهم إلى الاستيداع والتكهين، فيتخلصون منهم، أو يتركونهم للغرق .. واقرأوا التاريخ، وكيف تُرك أنور السادات لحتفه، بعد أن أدّى كل المطلوب منه، ولم يعد ثمة جديد يقدّمه للصهيوني.
استحضر الآن مشاهد الجنرال في أزياء خديوية مستعارة، وهو يعتلي سطح الباخرة "المحروسة" في حفل تسويق أول الأوهام وأكبرها في العام 2014: الإعلان عن قناة سويس جديدة، تغيظ الحاسدين وتفجر ينابيع الدولار والعملات الصعبة، فتكون أنهارًا تغرق الوطن والمواطن بخيراتها .. سجلا وقتها أن "ما تشبه الدولة" تغرق "ما يشبه الوطن" بما يشبه الوهم، لكي يسهل عليها اختطاف "ما يشبه الشعب"، بعيداً عن التفكير في التغيير السياسي مرة أخرى.
الآن، تتبخّر الأوهام وتنقشع سحب الأكاذيب، مخلفة وراءها حقيقة واحدة، أن هذا الرجل بنى وطنًا لا يناسب أبناءه ومحبّيه الحقيقيين، ولا يحتويهم، وإنما يعجب الأعداء والكارهين، ويوفر فرصًا هائلة للسماسرة والانتهازيين، فيحدّدون قواعد المواطنة، وشروط الانتماء، فيكون كل من يرفض كل هذا التخريب والتجريف بالعمالة والخيانة، إلى آخر هذه النوعية من معلبات الوطنية الجديدة، في الجمهورية الجديدة التي لا تحمل من ملامح الوطن وروحه الحقيقية شيئًا.