بأيّة حال عُدْتَ يا عيد؟
"عيدٌ بأيّة حال عُدْتَ يا عيد"، قالها المتنبّي راثياً وناعياً الأيام التي كان يعيشها في ظلّ حكم كافور الإخشيدي الذي كان عبداً حبشياً، ثمّ انقلب على أسياده في مصر، ولم يسلم منه البشر ولا الحجر، حتّى صحّر كلّ شيء فيها، وأصاب المتنبّي منه ما دفعه إلى قول هذا البيت من الشعر، بل إلى نظم قصيدة شهيرة يشرح فيها أحوال مصر وما بلغته في ظلّ قيادة كافور "الحكيمة". ولربما هناك اليوم مئات أو آلاف من المتنبّي يرثون حال مصر وأيامها التي تصحّر وتجمّد فيها كل شيء، وكأنّ الزمن توقّف بعد الإجهاز على المسار الديمقراطي الذي انطلق مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي.
"عيد بأيّة حالٍ عدتَ يا عيد"، قالها المتنبّي وهو يتذكّر الأيام الخوالي التي عاشها من قبل في سورية في ظلّ حكم سيف الدولة الحمداني، ثمّ رحل عنها بعدما كشف عن خبايا تلك الدولة وأسرارها، حيث المعلوم شيء والمخبوء شيء آخر. وكم من متنبّي اليوم يتذكّر سيف الدولة الحالي الذي قتل وغيّب مئات الآلاف وهجّر أضعافهم، وبعثر الجغرافيا السورية بين مناطق نفوذ موزّعة على القوى الإقليمية والدولية، وتنازل عن سيادتها وقرارها لصالح تلك القوى النافذة، لكنّه كشف أنّ المعلن يختلف جذرياً عن المخبوء والمختفي.
وليس بعيداً عن القاهرة وحلب ودمشق، ليست بغداد الرشيد أفضل حالاً مع العيد. لم تلتقط أنفاسها، ولم تستعد أمجادها بعد، وما ذكره ابن العراق صفي الدين الحلّي "بيضٌ صنائعنا، سودٌ وقائعنا/ خضر مرابعنا، حمر مواضينا" حاول كثيرون طمسه ومسحه من الذاكرة العراقية العربية، حتّى تظلّ بلاد الرافدين مطيّة للآخرين في مشاريعهم وطموحاتهم، غير أنّهم نسوا أنّ أهل هذه البلاد "قومٌ إذا استخصموا كانوا فراعنة يوماً/ وإنْ حكّموا كانوا موازينا".
وأمّا صنعاء، حيث الحكمة اليمنية، فإنّ الرؤية الضيّقة والخاصة، والطموحات والمصالح الفئوية، ومحاولات الهيمنة والاستحواذ على السلطة كادت أن تقضي على هذه الحكمة، وتقضي معها على اليمن الذي بات موزّعاً بين مناطق نفوذ وسيطرة تهدّد بتقسيمه وإضعافه وإلحاقه بالقوى الإقليمية والدولية.
كلّ شيء في بيروت محاصَر. الفرحة محاصرة. الكلمة محاصرة. العيد محاصَر بكمّ كبير من الهموم والأزمات التي لا تنتهي فصولاً
وفي الخرطوم، حيث العمق، لم يضع الإخوة المتقاتلون أي اعتبار للعيد، ليس له حرمة في قاموسهم، وليس مهمّاً ما يمكن أن يخلّفه القتال في أيّامه أو قبلها وبعدها من مآس ومن مخاطر على البلاد والعباد، وما من أحد يملك إجابة عن السؤال. لماذا؟
وفي تونس، حيث انطلق المسار الديمقراطي مع تفتّح زهور "الربيع العربي" من هذه البلاد الخضراء، جاء من يعيد هذه البلاد إلى حظيرة الاستبداد، وكأنّ الشابّي ليس من تلك البلاد، وهو الذي أنشد ذات يوم "إذا الشعب يوماً أراد الحياة"، فأراد الخائفون من الحريّة وقف هذا المسار، لأنّهم ليسوا من طينة أهل تلك البلاد، حتى لو تسمّوا بأسمائهم وتزيّوا بأزيائهم.
أمّا بيروت، وما أدراك ما بيروت، فالعيد يأتي إليها حزيناً وقد انكمش كلّ شيء. كلّ شيء في بيروت محاصَر. الفرحة محاصرة. الكلمة محاصرة. العيد محاصَر بكمّ كبير من الهموم والأزمات التي لا تنتهي فصولاً. ثمّ يأتيك من يريد أن يقنعك بأنّ العيد يأتي جميلاً أنيقاً عزيزاً سعيداً واللبناني يفتّش فيه عن لقمة عيش يقيم فيها أمعاءه، ويكافح معها من أجل البقاء والاستمرار.
ربما وحدها تباشير الأمل مع العيد تأتي من الديار المقدّسة في فلسطين، حيث يسطّر الفلسطيني أروع أنواع البطولات التي ترسم الطريق نحو مستقبل أفضل، على الرغم من الحصار والتخلّي، وربما أحياناً الطعن بالظهر. هناك يأتي العيد حاملاً عبق الشهادة من ناحية وأخبار البطولات والانتصارات من ناحية ثانية، حتى صارت تلك الديار قبلة الأحرار وأمل المتعطّشين للحرية.
ومن مكان آخر على شاطئ الخليج العربي، حيث دوحة الخير، تأتيك تباشير أمل آخر في نموذج فريد في فرادته ونجاحه وحضارته ورقيّه، يؤكّد أنّ العيد لا بدّ أن يأتي يوماً وقد تبدّلت الأحوال إلى ما تتمنّاه وتتطلّع إليه شعوب هذه الأمّة.