بايدن في آسيا: فرّق تسد
... وأخيراً، اختارت الولايات المتحدة، بقيادة الرئيس بايدن، مواجهة الصين اقتصادياً في آسيا، عوضاً عن تشكيل تحالف دولي واسع يتولّى هذه المواجهة، سواء اقتصادياً أو عسكرياً، وهي الاستراتيجية التي يبدو أن إدارة بايدن كانت تسعى لتنفيذها في الأسابيع الأولى من وصوله إلى البيت الأبيض مطلع عام 2021.
وباختيار الولايات المتحدة إقامة "الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ"، الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي لدى زيارته اليابان، خلال جولته في شرق آسيا قبل أيام، ويضم في عضويته 13 دولة (أستراليا وبروناي والهند وإندونيسيا واليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا ونيوزيلندا والفيليبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام إلى جانب الولايات المتحدة)، وليس من بينها الصين التي تمثل ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأول اقتصاد في آسيا وأكبر شريك تجاري لكل دول منطقتها الجغرافية، فإن الولايات المتحدة تسعى إلى عزل الصين عن محيطها، عبر تعطيل مشاريعها المتنامية مع دول شرق آسيا ووسطها المندرجة في إطار مبادرة الطريق والحزام الصينية، إذ يبدو "الإطار الاقتصادي" المعلن عنه بمثابة نقيض للبنك الآسيوي لاستثمارات البنى التحتية، وهو المؤسّسة الدولية التي أقامتها الصين لتنفيذ مشاريع مبادرتها الدولية.
مشروع الإطار الاقتصادي يعكس فشل واشنطن في مواجهة بكين دبلوماسياً
لكن، وبالنظر إلى مساعي المواجهة المبكرة مع الصين التي تبنّتها إدارة الرئيس جو بايدن، يمكن القول إن هذا المشروع الجديد يعكس فشل واشنطن في مواجهة بكين دبلوماسياً، أكثر مما يعكس نجاحها دولياً، وذلك من جانبين:
الأول: أنه يعكس عدم نجاح الولايات المتحدة في إقناع حلفائها في أوروبا بإقامة حشد دولي يواجه الصين، على عكس المساعي التي بدأت بها إدارة بايدن أيامها الأولى في البيت الأبيض، واضطرارها للبحث عن استراتيجيةٍ تعويضيةٍ في شرق آسيا. والحال أن الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي رفضت الانجرار وراء المساعي الأميركية لعزل بكين دولياً وشيطنتها، وفضّلت التمسّك بمصالحها مع الصين على التحوّل أداة بيد مصالح واشنطن، ما دفع الولايات المتحدة إلى مشروعها الجديد هذا.
لا يمكن أن تكون التنمية شاملةً في شرق آسيا بغياب الصين، ما يجعل شعار "التنمية الشاملة" مجرّد كلام غير واقعي
الثاني: أنه يدلل على أن الولايات المتحدة لم تتمكّن من طرح بديل اقتصادي تنموي يكافئ المشاريع الاقتصادية التي تقدّمها الصين في آسيا، ذلك أن "الإطار الاقتصادي" المطروح لا يمثل منطقة تجارة حرّة، وإنما يتحدّث عن التكامل الاقتصادي بين الدول المنخرطة فيه وحسب، في أربعة مجالات: الاقتصاد الرقمي وسلاسل الإمداد والبنية التحتية للطاقة النظيفة ومكافحة الفساد، وهذا أقلّ كثيراً من الاستثمارات التنموية التي تقدّمها الصين من خلال مبادرة "الطريق والحزام". ولهذا السبب، لجأت واشنطن إلى إثارة المخاوف العسكرية والسياسية من النفوذ الصيني لدى تايوان واليابان وكوريا الجنوبية والهند، لإقناعها بعزل الصين اقتصادياً، عوضاً عن تقديم بدائل اقتصادية تنموية في المنطقة، لذلك راح بايدن يتحدّث عن أن "الصين تلعب بالنار" في سياستها إزاء تايوان، مع علمه أن ما يقوله عن نية بكين ضم تايوان عسكرياً أمرٌ غير مطروح في سياسة الصين الإقليمية حالياً، ولا يعدو كونه ورقة تلعب بها الولايات المتحدة لشيطنة الصين.
والواقع أن واشنطن لم يكن ممكناً لها العودة إلى نهج التجارة الحرّة مع شرق آسيا والمحيط الهندي، بعد انسحابها في عام 2017 من اتفاق "الشراكة مع المحيط الهادئ" خلال عهد إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، التي اعتبرت أن اتفاقات التجارة الحرّة تشكل تهديداً لفرص العمل داخل الولايات المتحدة، وهذا يعني أن إدارة جو بايدن أرادت حلاً وسطاً يلبي فكرة عزل الصين عن محيطها بغرض الإضرار بمصالحها الاقتصادية، كذلك تلبية حاجات الولايات المتحدة بشأن ضمان استمرارية سلاسل التزويد مع دول شرق آسيا، وفي الوقت نفسه، عدم إثارة مخاوف الرأي العام الأميركي بخصوص سوق العمل وفرص الإنتاج.
وهكذا، بينما تحدّثت أهداف المشروع الأميركي عن "التنمية الشاملة في المنطقة"، فإن "شمولية" خطتها استبعدت أهم اقتصاد في تلك المنطقة، وهي مفارقةٌ ملفتة، سواء من حيث التسميات أو من حيث المضامين؛ إذ لا يمكن أن تكون التنمية شاملةً في شرق آسيا بغياب الصين، ما يجعل شعار "التنمية الشاملة" مجرّد كلام غير واقعي، ويشي بأن الولايات المتحدة إنما استقرّت على استعادة مبدأ "فرّق تسد" في مواجهة الصين كاستراتيجية قديمة - جديدة، عوضاً عن تقديم بدائل عملية منافسة تتمكّن من تقليص حضورها المتزايد في محيطها الإقليمي، وعوضاً كذلك عن إقناع دول العالم بالتخلي عن شراكاتها الاقتصادية مع بكين.
لم تتمكّن الولايات المتحدة من طرح بديل اقتصادي تنموي يكافئ المشاريع الاقتصادية التي تقدّمها الصين في آسيا
وما يؤكد هذا النهج الأميركي أن الرئيس بايدن اختار إثارة المخاوف الأمنية لدى حلفائه الآسيويين من أجل التشديد على أهمية بناء سلاسل تزويد عالمية جديدة، تستبعد الصين التي هي بمثابة "مصنع العالم" وأكبر مورّد للبضائع فيه، إذ قال بايدن في طوكيو "من خلال ضمان سلاسل الإمداد، يمكن تجنّب الاعتماد على دول ذات قيم مختلفة من حيث الاقتصاد والأمن القومي"، وذلك عوضاً عن الإشارة إلى المكاسب الاقتصادية التي يمكن تحقيقها من بناء تلك السلاسل الجديدة، بالنظر إلى الخلل الذي أصاب سلاسل التزويد القائمة منذ بدء جائحة كورونا قبل أكثر من سنتين.
على الجانب الصيني، لا يبدو أن المشروع الأميركي في شرق آسيا يثير الهلع، إذ نحت وسائل الإعلام الحكومية الصينية إلى التركيز على أن واشنطن اختارت التصديق على الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ عبر أمر تنفيذي رئاسي، متخطّية موافقة الكونغرس، مقابل طلبها من الدول المشاركة الأخرى استكمال جميع الإجراءات القانونية للانضمام. وبهذه الطريقة، كتبت صحيفة الشعب الصينية الحكومية أنه يمكن لواشنطن أن تتخلّى عن التزاماتها وقتما تشاء، كما يمكنها تجاهل المبادرة عند تولي إدارة جديدة مهام الرئاسة في البيت الأبيض مستقبلاً.
يبقى أن الإطار الاقتصادي الجديد الذي أقامته الولايات المتحدة في شرق آسيا لا يضمن، بالضرورة، التزام الدول المشاركة فيه بعزل الصين اقتصادياً، خصوصاً التي لا تتوفر على مخاوف عسكرية في مواجهة الصين، والتي أبرمت مع بكين سابقاً اتفاقيات استثمارية في إطار مبادرة الطريق والحزام، مثل سنغافورة التي امتدح رئيسها، في مقابلة صحافية، الإطار الاقتصادي الجديد مع الولايات المتحدة، لكنه أشاد أيضاً بمبادرات الصين ومشاريعها.