بايدن يعلن شروط استسلام العالم العربي من القدس
لم يكن ما قام به الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، مجرّد زيارة إلى المنطقة، بل كان غزواً من دون حرب عسكرية، أعلن فيه من القدس العربية المحتلة قواعد حكم القوى المهيمنة، أي أميركا وإسرائيل، فلا وجود لمصلحة أنظمة عربية ولا شعوب عربية، ولا وجود سوى لأمن إسرائيل وتفوقها تمهيدا لعهد دمجها في العالم العربي وتصفية القضية الفلسطينية، فاختيار القدس المحتلة لإصدار بيان أسس التحالف الإقليمي المقبل، بقيادة أميركا وإسرائيل، وطيران الرئيس الأميركي مباشرة إلى جدة، بدلا من المرور في دولة عربية، مثل الأردن، غير الموجودة على الجدول، كان موقفا أميركيا نهائيا حيال مصير القدس، واعتراف واشنطن بالقدس "عاصمة أبدية لدولة إسرائيل"، وإعلانا غير مكتوبٍ عن تقدّم خطوات التطبيع بين إسرائيل والسعودية، ومؤشّرا على أن تغيير خريطة المنطقة مسألة وقت ليس بعيدا، وهذا ما يريد منا بايدن التسليم به، شئنا أم أبينا.
ولكن، قبل الاستمرار، من الضروري التأكيد أن ليس كل ما تريده أميركا يمكن أن تحققه، وإعلان أسس التحالف الإقليمي بقيادة أميركية – إسرائيلية، وهو البيان الذي سرق اسم القدس، لا يعني النهاية، ولا يعني أن انتصار أميركا حتمي، خصوصا وأن الدولة الصهيونية تريد أن تدفع أميركا إلى حروبٍ عسكريةٍ لا تستطيع واشنطن خوضها، لكن هذا لا يعني أيضا عدم تناول أبعاد محاولة بايدن إعلان انتصار إسرائيل وبجدّية، والتحذير من تبعات جولة أشبه بالغزوة، فغطرسة الاستعمار وحدها لا تصنع التاريخ. والموجع أن البيان صدر من القدس، وسمّي باسمها، وهذا في ذاته أخطر من اعتراف الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بـ"القدس الموحدة عاصمة أبدية لدولة إسرائيل". عنوان البيان وتفاصيله تلخص المرحلة المقبلة، وتنهي أي جدلٍ بشأن حقيقة السياسة الأميركية، ولكن من اشترى الوهم ومن لا يزال يعيشه، لن يرى أو يسمع أو يفقه قولا.
تعرّضَ العالم العربي لعدوان، من دون أن يتاح لأحد أن يقاتل دفاعا عن مستقبله، فإعلان بايدن أنه صهيوني، وإنْ ليست المرّة الأولى، هو تأكيد على ذلك وهو رئيس وبشكل رسمي، كان رسالةً واضحة إلى العالم العربي، لأن المنتصر، من وجهة رأي أميركية، يفرض شروطه، فلا مكان لأمن قومي عربي، أو حقوق فلسطينية، ومن لا يوافق على الشروط يصبح عدو الإقليم برمّته، وليس لإسرائيل فقط.
يتعامل بايدن مع القضية الفلسطينية بوصفها عبئا لا بد من إزالته، من دون إعطائها أهمية تعيد صورتها قضية مركزية
لا يوجد في البيان المشؤوم الوقح جديد عن السياسة الأميركية، فكل خطوات بايدن، منذ لحظة تنصيبه، التي تمحورت حول تعميق التطبيع العربي الإسرائيلي وتوسيعه، كانت تمهيدا لإعلان قواعد حكم أميركا وإسرائيل المنطقة، على شكل نقاطٍ صريحةٍ لا لبس فيها، وتسميتها بالقدس هي بنفسها إعلان احتقار العالم العربي وهزيمته، لكن الجديد إصداره بيانا إسرائيليا – أميركيا مشتركا موجها إلى العالم العربي، أنظمة وشعوبا. ولكن الإعلان الاستعماري خطير، لأنه، وبكل وضوح، يؤسّس سياسيا وأمنيا وعسكريا، لإعلان حلف عسكري سياسي أمني عربي إسرائيلي في المنطقة، تكون بنود الإعلان هي شروطه، بهدف ترسيم إيران عدوّا استراتيجيا بدلا من إسرائيل، لضمان تفوق إسرائيل وربط الدول العربية بشروط الأمن القومي الإسرائيلي؛ فلن يُسمح لأي اتفاقيات وتحالفات عربية عربية أو عربية مع أي دول أخرى تخلّ بشروط قيادة إسرائيل أمن المنطقة، بمعنى أنه انتهى عهد الاعتراف الأميركي الكاذب باستقلالٍ للدول العربية أو سيادة. وإذا كانت بعض الأنظمة ترفض الاستيقاظ من وهمها، وبايدن لم يبدأ زيارته من عمّان أو الرياض، بل اختار الكيان الصهيوني، كأنه يقول: هنا قيادتكم، ولا مجال أمامكم سوى الخضوع.
وجّه البيان طعنة في القلب باختياره القدس المحتلة، ليؤشّر إلى أن وضع القدس قد انتهى، فقد حسم بايدن أمر مستقبل المدينة، وقام بما لم يجرؤ أن يقوم به رئيس أميركي من قبل، بعد أن مهّد ترامب له الطريق، فقد صادر اسم القدس، ولم ينتبه أحد من الحكام العرب، أن واشنطن، يوم صمتوا عن اعتراف ترامب بالقدس "عاصمة موحدة لإسرائيل"، لم تعد بعده مهتمة بردود فعل عربية رسمية أو شعبية، عكس كل تحذيرات المراكز البحثية الأميركية، حتى الصهيونية، من مكانة القدس الخاصة لدى العالم العربي. يوم هانت القدس، لم يعد هناك خطوط حمر أو برتقالية خوفا من انفجار غضب نظام أو شارع، بل أصبحنا مصدر تندّر في أروقة صناعة السياسة الأميركية.
أميركا تحسب حسابا لإيران، وتعاملها بوصفها قوة إقليمية، وتعمل على احتوائها، لأن الهدف الأميركي كان ولا يزال، وكما شدد عليه بيان خطوط الاستراتيجية الأميركية - الإسرائيلية، ضمان استمرار التفوق العسكري الإسرائيلي، أي عكس نظرتها إلى العالم العربي الذي أصبح في نظر واشنطن كياناتٍ هلامية سهل تفكيكها تمهيدا لهزيمتها، خصوصا وأن هدف دمج إسرائيل في المنطقة يتطلب تحدي الهوية الفلسطينية العربية أرض فلسطين التاريخية، فالهوية العربية مطلوب محوها، أو على الأقل، سحب قوتها، فعمليات التطبيع تربط مصالح كل دولة عربية على حدة بمصالح الدولة الصهيونية، فتصبح المصالح العربية المشتركة أمرا من الماضي.
خطوات بايدن، منذ تنصيبه، تمحورت حول تعميق التطبيع وتوسيعه وكانت تمهيداً لإعلان قواعد حكم أميركا وإسرائيل المنطقة
أما القضية الفلسطينية فتعامل معها بايدن بوصفها عبئا لا بد من إزالته، من دون إعطائها أهمية تعيد صورتها قضية مركزية، وهذا ما أراد بايدن إثباته (أقل من 25 دقيقة للقاء الرئيس محمود عبّاس)، ليبعث رسالة إلى العالم والعالم العربي، ولكن حتى هذه الفترة الوجيزة تدل على أن "عبء القضية" لم يختف، بفضل استمرار مقاومة الشعب الفلسطيني وصموده، إذ إن الغرض تصفية القضية ووقف الحديث عنها، عربيا وعالميا ومحوها من القاموس. ولا تُقبل الإدارة الأميركية على خطة بدون دراسة كل دقيقة في رحلة رئيسها، وهذا معروف، فلم يكن ممكنا تجاهل هذا اللقاء، لكنها أرادت بعث رسائل، منها: تقزيم القضية الفلسطينية وتحجيمها، ولكن في الوقت نفسه، تحاول أن تعطي إبرة تخدير للشعب الفلسطيني، وبالأخص للقيادات الفلسطينية، بزرع وهم التزام أميركا بحل الدولتين، الذي أصبح، في العرف الأميركي والإسرائيلي، يعني قيام كينونة فلسطينية تحت السيطرة الإسرائيلية، منزوعة السيادة والسلاح.
حاول بايدن إملاء شروط الاستسلام على العالم العربي، معتمدا على بيع وهم الحماية والسلام للأنظمة، ومحاولا كسر همّة الشعوب، وأحدث خرقا جديدا بجعل السعودية تفتح أجواءها للطيران الإسرائيلي، فالتطبيع العربي – الإسرائيلي أهم أسس نجاح المشروع الصهيوني، وتغيير خريطة المنطقة، وتحويلنا إلى منطقة رخوة تجعلنا بيادق في حرب كونية، لمنع صعود روسيا والصين، وترسيخ هيمنة أميركا المهتزّة، فأميركا تسعى إلى استسلام الشعوب، وليس الأنظمة فحسب، ما يجعل مناهضة التطبيع سلاحا مقاوما في أيدي الشعوب، بما في ذلك رفض التطبيع الفكري، فلا يحق لأميركا والدولة الصهيونية تعريف أعدائنا، فالمقاومة ليست إرهابا، بغض النظر عن أي خلاف مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي أو حزب الله، فأميركا تريد تجريم فكرة المقاومة، فهي ترفض إزالة منظمة التحرير الفلسطينية من قائمة المنظمات الإرهابية، وتعرف أن أسرى حركة فتح وشهداءها، كما كل الفصائل الفلسطينية، هم من تراث المنظمة وأهم عناوينها. ولهذا تعمل على إجبار السلطة الفلسطينية على قطع رواتب عائلات الأسرى والشهداء، فالمقاومة فكرة، وفكر، فنحافظ عليها، فلا بديل عنها وعن رفض التطبيع.