بدأت معركة إسقاط الأبارتهايد الإسرائيلي
منذ أكثر من عشرين عاماً، ونحن نحاول إقناع العالم بأن إسرائيل منظومة الأبارتهايد والتمييز العنصري الأسوأ في التاريخ الحديث، بالإضافة إلى ما تمارسه من احتلال، وتطهير عرقي، واستعمار كولونيالي ضد الشعب الفلسطيني. وجاءت بدايات التحول في الرأي العام العالمي، في مؤتمر ديربان لمناهضة العنصرية في جنوب أفريقيا عام 2001 بتنظيم من الأمم المتحدة، وهوجمت فيه إسرائيل باعتبارها نظاماً عنصرياً. وجاء التغير الثاني في الكتاب الذي أصدره الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، عام 2006، بعد سلسلة لقاءات معه، تحت عنوان "سلام وليس أبارتهايد"، ما عرّضه لهجوم كاسح من اللوبي الإسرائيلي والمناصرين للحركة الصهيونية. ثم جاء التقرير الموثق بالحقائق الموضوعية لفريق لجنة الأمم المتحدة لغرب آسيا (إسكوا)، والذي كشف معالم نظام الأبارتهايد الإسرائيلي باعتباره يضطهد الفلسطينيين في الداخل والأراضي المحتلة والخارج. وعلى الرغم من الدقة العلمية للتقرير، إلا أن الأمين العام للأمم المتحدة رضخ للضغوط الإسرائيلية والأميركية ومنع نشر التقرير على موقع "إسكوا"، من دون أن يحول دون ما أحدثه من تأثير فكري وإعلامي واسع. بعد ذلك، جاء تقرير منظمة عالمية لها احترام كبير، هيومن رايتس ووتش، ليشرح بالوثائق والحقائق ما يتعرّض له الفلسطينيون في الأراضي المحتلة من اضطهاد عنصري ومنظومة أبارتهايد. وترافق ذلك مع صدور تقرير مماثل عن أكبر منظمة حقوق إنسان إسرائيلية، بيتسيلم، تؤكد كذلك وجود نظام الأبارتهايد.
يضع تقرير منظمة العفو الدولية أرضية صلبة وغير مسبوقة في قوتها، لتوسيع حملة المقاطعة وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات على نظام الأبارتهايد الإسرائيلي
وفي الأسبوع الماضي، جاء ما أسميه "قمة التقارير"، في وثيقة منظمة العفو الدولية (أمنستي) التي تضم عشرة ملايين عضو في العالم، وتحظى باحترام عالمي كبير أهلها لنيل جائزة نوبل للسلام عام 1977، تحت عنوان "الأبارتهايد الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، نظام إجرامي للسيطرة (الهيمنة) وجريمة ضد الإنسانية". ومن دون الخوض في تفاصيل هذا التقرير المؤثر(270 صفحة)، وأنصح كل سياسي وناشط فلسطيني بقراءته كاملاً، لا بد من الإشارة إلى خمس نقاط هامة تميزه:
أولاً: أنه أثبت بالحقائق الدامغة، والمعطيات العلمية الموضوعية، في بحث استمرّ أربع سنوات، وجود نظام أبارتهايد واضطهاد عنصري يمثل جريمة ضد الإنسانية حسب القانون الدولي.
ثانياً: أنّه بالاختلاف عن تقرير "هيومن راتيس ووتش" يؤكد ما ورد في تقرير "أسكوا" أنّ نظام الأبارتهايد العنصري يضطهد جميع الفلسطينيين سواء من يقيم في أراضي 1948، أو الأراضي المحتلة، أو اللاجئين المهجّرين قسراً في الخارج وأبنائهم وأحفادهم.
يشير التقرير إلى أنّ الدول التي تدعم إسرائيل عسكرياً بالسلاح، والحماية من المحاسبة في الأمم المتحدة (المقصود أولاً الولايات المتحدة) تصبح شريكة في دعم الأبارتهايد
ثالثاً: يؤكد وقوع جريمتين ضد الإنسانية على يد الأبارتهايد الإسرائيلي، الاضطهاد والتمييز العنصري، حسب ما ينص عليه ميثاق روما عن الأبارتهايد، ويفصل معالم الجرائم من مصادرة الأراضي والممتلكات، إلى القتل، والترحيل القسري، وتقييد حرية الحركة، وحرمان الفلسطينيين من الانتماء القومي والجنسية والحق في الإقامة في وطنهم.
رابعاً: يطالب المجتمع الدولي بمحاسبة السلطة الإسرائيلية على هذه الجرائم، كما يدعو محكمة الجنايات الدولية إلى الإقرار بوجود نظام الأبارتهايد في تحقيقها بشأن الوضع في فلسطين، ويطالب جميع الدول بإخضاع مرتكبي جريمة الأبارتهايد للعدالة، ويضيف التقرير أنه "لا يوجد مبرّر لنظامٍ بني على قمع ممأسس ومنهجي لملايين الناس".
خامساً: يشير إلى أنّ الدول التي تدعم إسرائيل عسكرياً بالسلاح، والحماية من المحاسبة في الأمم المتحدة (المقصود أولاً الولايات المتحدة) تصبح شريكة في دعم الأبارتهايد، وتهدّد النظام القانوني العالمي، وتفاقم معاناة الشعب الفلسطيني.
وفي الخلاصة، يضع هذا التقرير أرضية صلبة وغير مسبوقة في قوتها، لتوسيع حملة المقاطعة وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات على نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، بصورةٍ لا تقل زخماً عن حملة المقاطعة العالمية التي أسهمت في إسقاط نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا. وهو بالتالي يساهم في تعزيز مكانة حركة المقاطعة عموداً أساسياً من أعمدة الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية لتغير ميزان القوى وإلحاق الهزيمة بنظام الأبارتهايد والاستعمار الإسرائيلي.
ثبت عالمياً وجود نظام الأبارتهايد العنصري الإسرائيلي، ولا مبالغة في القول إنّ معركة إسقاط هذا النظام الإجرامي قد بدأت
السؤال الأهم، ما الذي يعنيه هذا التقرير، الذي رحبت به كلّ القوى الفلسطينية، بالنسبة لاستراتيجية النضال الوطني الفلسطيني وأهدافه؟
أولاً: يثبت التقرير ضرورة التخلي عن النهج الفاشل بالمراهنة على حلّ وسط مع نظام الأبارتهايد العنصري، أو الاستمرار في الحديث عن المفاوضات، أو مواصلة التمسّك باتفاق أوسلو ومفرزاته التي رماها الإسرائيليون في سلة المهملات. وأنّ البديل عن ذلك تبنّي استراتيجية كفاحية مقاومة لنظام الاضطهاد والتمييز العنصري الإسرائيلي.
ثانياً: يؤكّد صحة ما دعونا إليه، من ضرورة إعادة صياغة الهدف الوطني الجامع للفلسطينيين كافة، كي لا يقتصر على إنهاء الاحتلال للأراضي المحتلة عام 1967، بل أن يشمل أيضاً إسقاط مجمل نظام الأبارتهايد العنصري في كلّ فلسطين التاريخية، والذي يعني كذلك تطبيق حق عودة اللاجئين الفلسطينيين وذرّيتهم إلى وطنهم فلسطين، إذ لا يمكن لحركة تحرر وطني أن تطالب برفع الظلم عن جزء من شعبها فقط، مع بقاء نظام الأبارتهايد العنصري ضد أجزاء أخرى، وتحديداً اللاجئين الفلسطينيين والفلسطينيين المقيمين في أراضي 1948.
بعد أكثر من عشرين عاماً من الجهد المثابر، انتصرت روايتنا الفلسطينية، وثبت عالمياً وجود نظام الأبارتهايد العنصري الإسرائيلي، ولا مبالغة أبداً في القول إنّ معركة إسقاط هذا النظام الإجرامي قد بدأت.