15 نوفمبر 2024
بعد هذه السنوات الخمس
لا يُخبرنا التاريخ أن الثورات إذا قامت تنتصر حتماً. لم يصل إلينا منه أن الثورات عندما تنشب، لأي مطلبٍ كان، لا يواكبها شيء أو كثير من الفوضى وعدم الاستقرار، وأحياناً العنف. واضح أن قليلين من نخبنا، نحن العرب، المثقفة والمتعلمة والفاعلة، لا يقرأون التاريخ، برغبة أن يتعرّفوا على خلاصاتٍ في تجارب الموجات الثورية لدى الشعوب والأمم، تفيد في استظهار المعاني الجوهرية والقوانين الناظمة في غضون هذه الثورات (أو الاحتجاجات أو الهبّات أو الانتفاضات أو الحراكات). وربما، لو أن هذه القراءة متحققة بالمقادير اللازمة، فإن مجتمعاتٍ عربيةً كانت ستنجو من جوائح غير قليلة. تُساق هذه البديهية، هنا، بمناسبةِ ما نصادفه من تشاطر مطالعاتٍ عجولة، ينشرها معلقون وسياسيون عرب، تنشط في لعن الربيع العربي الذي تسبّب، بحسبهم، بالدمار والاحتراب في سورية وليبيا واليمن، بل وبالتجويع في مضايا أيضاً، على ما كتب زميل، مطمئناً إلى قناعته هذه التي بدا فيها كأنه يشحط الذئب من ذيله، وهو يكتشف مسؤولية الربيع العربي عن مقتلة التجويع في البلدة السورية المغدورة.
واضحٌ أن لدى من تنقصهم المعرفة بالتاريخ وقوانينه، وهم كثيرون، "كتالوغاً" للثورات في أفهامهم، يوضح كيف ينبغي أن تكون، وماذا يجب أن تنتهي إليه. ولأن ما جرى في سورية وليبيا واليمن ومصر (وتونس) لا يتطابق مع ما في مداركهم، فإن ما جرى في هذه البلدان لا يجوز تسميته ثوراتٍ، وإنما خراب أو مؤامرات. ومن عجائب ما في خراريف هؤلاء أن الوقائع الانتخابية إذا لم تأتِ بأمثالهم إلى الحكم، بعد المظاهرات في الميادين والشوارع، والتي جوبهت بالرصاص، وأطاحت حسني مبارك وبن علي، فإن الملعوب الأميركي وتآمر هنري ليفي ينكشفان، خصوصاً وأن الإسلاميين هم من يتصدّرون نتائج الانتخابات، النيابية، بل والرئاسية أيضاً. وفي حسبان بعض أصحاب هذا الكلام، ممن هم أعلى كعباً في سوّيتهم الثقافية، إنها ليست ثوراتٍ هذه التي تستبدل سلطاتٍ مستبدةً بأخرى إسلامية، فالأوجب قيام ثوراتٍ على هذه المجتمعات نفسها.
ومع اكتمال خمس سنوات على اشتعال ثورات موجة الربيع العربي، ومع التسليم بأن مآزق كبرى عبرت إليها هذه الثورات، يحسُن التذكير ببديهياتٍ أولى، عند الإطلال، مع هذه المبعدة الزمنية، على تلك الموجة، وعلى ما استجدَ تالياً من عواصفَ باتت في بعضها سلامة الدولة الوطنية في المشرق العربي موضع سؤال. من هذه البديهيات إنه لا يحسُن، أخلاقياً، أن يُمارس الفاعل في الإعلام والسياسة والاجتماع، الحكمةَ بأثرٍ رجعي، كأن تتحمّس لمظاهرات 2011 في ميدان التحرير وحماة وصنعاء، ثم "تكتشف"، مع انتخاب محمد مرسي رئيساً في مصر وارتجاج الحالة اليمنية وانعطافة سورية إلى العسكرة التدميرية، أن الأمر لم يكن ربيعاً، وإنما خريف، وتآمر واضح، يعرف تفاصيله حبيب العادلي وسعدي يوسف ولميس الحديدي وناهض حتر، ومعهم خلطة أخرى من يساريين وقوميين، لا مجازفة في الزّعم هنا إن انكشاف ضعف الحساسية الأخلاقية لديهم تجاه حق الشعوب في الحياة (قبل التحرّر من الاستبداد) من أهم منجزات ثورات الربيع العربي.
من بديهياتٍ أخرى، إنّ أصحاب المصالح لا يحبّون الثورات، على ما كتب نجيب محفوظ (المحافظ وغير الثوري) قبل سنوات بعيدة. ولذلك، كان طبيعياً أن يُلملم أهل الثورات المضادة أنفسهم ويتحالفوا، ويبحثوا عن ركائز خارجية، وهم رجال الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب، والمتضرّرون من التغيير، والفاسدون، والعسكر المرتجفون، وأتراب هؤلاء وأولئك ممن توسّلوا العنف والقوة ضد من لا يسبّح بحمد عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد، وممن أيقظوا شياطين الفساد، وأشعلوا إعلام الفتن، واستثمروا الحساسيات الطائفية والمذهبية والجهوية، ونشطوا في رمي الإسلام السياسي بما فيه وما ليس فيه. نجح هؤلاء، مجتمعين، في إحداث انتكاسة التمرين الديمقراطي العربي الواعد، (وإنْ أخفقوا جزئياً في تونس). ولكن، يُخبرنا التاريخ أن بذور كل ثورةٍ تخفق، تبقى ثاويةً بعض الوقت، قبل أن تجدّد ربيعها.
واضحٌ أن لدى من تنقصهم المعرفة بالتاريخ وقوانينه، وهم كثيرون، "كتالوغاً" للثورات في أفهامهم، يوضح كيف ينبغي أن تكون، وماذا يجب أن تنتهي إليه. ولأن ما جرى في سورية وليبيا واليمن ومصر (وتونس) لا يتطابق مع ما في مداركهم، فإن ما جرى في هذه البلدان لا يجوز تسميته ثوراتٍ، وإنما خراب أو مؤامرات. ومن عجائب ما في خراريف هؤلاء أن الوقائع الانتخابية إذا لم تأتِ بأمثالهم إلى الحكم، بعد المظاهرات في الميادين والشوارع، والتي جوبهت بالرصاص، وأطاحت حسني مبارك وبن علي، فإن الملعوب الأميركي وتآمر هنري ليفي ينكشفان، خصوصاً وأن الإسلاميين هم من يتصدّرون نتائج الانتخابات، النيابية، بل والرئاسية أيضاً. وفي حسبان بعض أصحاب هذا الكلام، ممن هم أعلى كعباً في سوّيتهم الثقافية، إنها ليست ثوراتٍ هذه التي تستبدل سلطاتٍ مستبدةً بأخرى إسلامية، فالأوجب قيام ثوراتٍ على هذه المجتمعات نفسها.
ومع اكتمال خمس سنوات على اشتعال ثورات موجة الربيع العربي، ومع التسليم بأن مآزق كبرى عبرت إليها هذه الثورات، يحسُن التذكير ببديهياتٍ أولى، عند الإطلال، مع هذه المبعدة الزمنية، على تلك الموجة، وعلى ما استجدَ تالياً من عواصفَ باتت في بعضها سلامة الدولة الوطنية في المشرق العربي موضع سؤال. من هذه البديهيات إنه لا يحسُن، أخلاقياً، أن يُمارس الفاعل في الإعلام والسياسة والاجتماع، الحكمةَ بأثرٍ رجعي، كأن تتحمّس لمظاهرات 2011 في ميدان التحرير وحماة وصنعاء، ثم "تكتشف"، مع انتخاب محمد مرسي رئيساً في مصر وارتجاج الحالة اليمنية وانعطافة سورية إلى العسكرة التدميرية، أن الأمر لم يكن ربيعاً، وإنما خريف، وتآمر واضح، يعرف تفاصيله حبيب العادلي وسعدي يوسف ولميس الحديدي وناهض حتر، ومعهم خلطة أخرى من يساريين وقوميين، لا مجازفة في الزّعم هنا إن انكشاف ضعف الحساسية الأخلاقية لديهم تجاه حق الشعوب في الحياة (قبل التحرّر من الاستبداد) من أهم منجزات ثورات الربيع العربي.
من بديهياتٍ أخرى، إنّ أصحاب المصالح لا يحبّون الثورات، على ما كتب نجيب محفوظ (المحافظ وغير الثوري) قبل سنوات بعيدة. ولذلك، كان طبيعياً أن يُلملم أهل الثورات المضادة أنفسهم ويتحالفوا، ويبحثوا عن ركائز خارجية، وهم رجال الأنظمة التي ثارت عليها الشعوب، والمتضرّرون من التغيير، والفاسدون، والعسكر المرتجفون، وأتراب هؤلاء وأولئك ممن توسّلوا العنف والقوة ضد من لا يسبّح بحمد عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد، وممن أيقظوا شياطين الفساد، وأشعلوا إعلام الفتن، واستثمروا الحساسيات الطائفية والمذهبية والجهوية، ونشطوا في رمي الإسلام السياسي بما فيه وما ليس فيه. نجح هؤلاء، مجتمعين، في إحداث انتكاسة التمرين الديمقراطي العربي الواعد، (وإنْ أخفقوا جزئياً في تونس). ولكن، يُخبرنا التاريخ أن بذور كل ثورةٍ تخفق، تبقى ثاويةً بعض الوقت، قبل أن تجدّد ربيعها.