بعض من سيرة الحرية الوهمية في لبنان
يكاد لا يمر يوم في لبنان إلا وتستدعي الأجهزة الأمنية، أو تلاحق أو تعتقل، وبالحد الأدنى، مواطنًا أو أحد المقيمين أو اللاجئين، بطرقٍ تخالف القانون وتتخطّى وتضرب الشرائع والأصول عرض الحائط في معظم الأحيان. يكاد لا يمرّ يوم إلا وتُصدر تقارير عن جهاتٍ ومنظماتٍ حقوقية محلية، وأخرى دولية، ومؤسّسات إعلامية، تفيد بضرورة وضع حدٍّ لعنف الأجهزة وتعدّياتها ولتضييق الخناق على الحرّيات الذي يُمارس في لبنان، ناهيك عن الدعوات المستمرّة التي تحذّر من خطورة ما يجري من استباحة للرأي وللحقّ بقوله، بشكل استنسابي فاضح، يطيح التزام الدولة اللبنانية بأحد أبرز بنود شرعة حقوق الإنسان، وبحيث تتكشّف أيضًا كمية التغوّل البوليسي الذي يهيمن على الدولة اللبنانية منذ بداية رحلة الانهيار المتسارع ما قبل انتفاضة 17 تشرين أول (2019).
لا يعني الأمر أن لبنان كان واحة استثنائية للحرّيات في السابق، كما كانت الشعوب العربية المحيطة تعتقد، وكما اعتقد مثقّفوها ومفكّروها وفنّانوها، وكما كان يحلو للأحزاب التقدّمية اللبنانية والعربية تصوير الأمر، ناهيك عمّا كرّسته الأيديولوجيّة اليمينيّة اللبنانيّة في سعيها للتأكيد على أن لبنان واجهة العرب على مستوى الحرية، وأنه منارةٌ على مستوى تحقيق الذات، وواحة على مستوى ممارسة العمل السياسي الحرّ والتفكير النقدي.
وصلت القوى المهيمنة في لبنان إلى العقم وعدم القدرة على إعادة انتاج النظام، وها هي "مكانك راوح" في استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية
كان وهم الحرية الاستثنائية هذا، والتغنّي المزيّف به، ناتجيْن عن علاقة تفاضلية مع المحيط العربي الذي تحكمه الدكتاتوريات، بحيث كانت بيروت مجالًا مفتوحًا أمام كل من كان يهرب من البطش، على اعتبار أنها أفضل نسبيًا مقارنة بأنظمة قمعية محيطة. لكن الأمر لا يتخطّى تلك المفاضلة الكمية، وهو ما يكشف زيف ادّعاءاتٍ كثيرة، فمنذ ما قبل الحرب الأهلية، كانت الاغتيالات والتصفيات الجسدية تجد طريقها إلى معاقبة الصحافيين والكتّاب وأصحاب الكلمة الحرّة البعيدة والمعترضة على مافيات السلطة ومليشياتها، والمعترضة أيضًا على ممارسة الأجهزة الأمنية والعسكرية بوصفها أداة قمع في يد النظام السياسي الطائفي اللبناني وقواه المسيطِرة (نسيب المتني، فؤاد حداد، كامل مروّة، إدوار صعب). وقد تكثّفت تلك التصفيات في فترة الحرب (سليم اللوزي، رياض طه، سهيل الطويلة، حسين مروة، مهدي عامل... إلخ)، وبعد اتفاق الطائف (مصطفى جحا) وصولًا إلى عام 2005 وبداية سلسلة من الاغتيالات الصحافية والسياسية، (رفيق الحريري، وسمير قصير، وجبران تويني... إلخ)، وصولًا إلى مجموع ما يُشاهد اليوم من تهديدات واغتيالات وتصفيات جسدية (لقمان سليم) والتي يدخل بعضها ضمن القمع والترهيب وغيرها من جرائم سياسية ومن حملات تهديدٍ ووعيدٍ طالت القريب والبعيد من أصحاب الرأي، خصوصًا بعد انفجار مرفأ بيروت واستمرار تزايد حدّة الانهيار. فمع كل انتقال بين هذه المراحل، كان وجه الحرية الوهمية يتداعى، إلى أن أصبحت المعادلة والنموذج الوحيد هو القمع البوليسي والترهيب العلني والتصفية المباشرة، ناهيك عن انتهاك الخصوصيات، وتشويه السمعة، لا التحقيق واكتشاف من فجّر بيروت على سبيل المثال، ولا الكشف عمّن استباح المال العام، ولا التحقيق في قضايا العنف الممارَس ضد النساء، ولا تفشّي السلاح وانتشار المخدّرات... إلخ.
السائد اليوم في لبنان نموذج أمني ترافقه مراوحة ناتجة سياسيًا عن مطلب الإجماع، وعن صيغة الديموقراطية التوافقية الوهمية في آلية صنع القرار واتخاذه
السائد اليوم نموذج أمني ترافقه مراوحة ناتجة سياسيًا عن مطلب الإجماع، وعن صيغة الديموقراطية التوافقية الوهمية في آلية صنع القرار واتخاذه. وتكشف هشاشة هذا الإجماع القائم على توازنٍ طائفيٍّ عن معادلةٍ معطوبةٍ تؤكد على أن تكثيف حرية اتخاذ القرار بشكل جماعاتي، بالتلازم مع احتكار التمثيل الطائفي، يكون حتمًا على حساب الحرّيات، وعلى حساب العمل المؤسّساتي والممارسات الديموقراطية، فالحرية الجماعاتية والطائفية تخفي الجوهر القمعي والوجه القبيح والكريه للنظام الطائفي الذي يديره تحالف المليشيات والمافيات الحاكم. واللافت في المعادلة أن الأيديولوجيّة اللبنانويّة لطالما سعت إلى تمييز لبنان عن المحيط العربي من خلال التمسّك بالحرية، حتى وصل الأمر بها إلى القول بالتماهي الجوهري بينهما، انطلاقًا من مصادرةٍ تقول إن الحرية مجبولة في تركيبة لبنان، فلا يمكنه أن يفقدها وإلا فقد هويته وطبيعته، لا بل وظيفته في المنطقة، الوظيفة القائمة على تنوير مزعوم، ومتخيّل، تنوير مستورد مع سلع الحداثة والرحلات التجارية وحركة الاستيراد والتصدير. وفوق هذا كله حرية حركة رأس المال ونِسخ السرية المصرفية. واللافت أيضًا أن الدولة اللبنانية التي تكشف اليوم عن هذا الكم من القمع والترهيب والنموذج البوليسي، والمتخطّية كل إمكانات محاسبة المرتكبين والمرتشين والفاسدين، تجد أجهزتها كل الوقت للتنكيل بأصحاب الرأي من الصحافيين والإعلاميين، من دون أن تكلّف الأجهزة نفسها عناء التحقّق من تهم الفساد المستشرية في الملفّات التي يكشف الصحافيون عنها، فلبنان يكشف جوهريًا، وبمجهود الأجهزة والقوى السلطوية، عمّا يتعارض مع كل الأيديولوجيّات وأوهام الحرية التي شيّدتها القوى السلطوية نفسها.
بات واضحًا أن مطلب التمسّك بالوجه الديموقراطي الناعم، والوجه الحر، وإن كان وهميًا، أمرٌ صعب المنال، وها هو يسقُط شيئًا فشيئًا
يدخل ذلك كله ضمن المتوقّع، فالقوى المهيمنة وصلت إلى هذا العقم وعدم القدرة على إعادة انتاج النظام، وها هي "مكانك راوح" في استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وفي غيرها من ملفّات واستحقاقات، خصوصًا ما يتعلق بتكليف (وتشكيل) الحكومات التي كان للبنانيين صولات وجولات فيها... لقد بات واضحًا أن مطلب التمسّك بالوجه الديموقراطي الناعم، والوجه الحر، وإن كان وهميًا، أمرٌ صعب المنال، وها هو يسقُط شيئًا فشيئًا.
لقد وصلنا اليوم إلى حكم المليشيات والعصابات الفاشية التي تفرّخ، وبشكل علني، في كل الطوائف والمناطق، وبدأت تفرض نماذج "أخلاقيّة" وسلوكيّة تتضارَب مع معايير الدولة المدنية التي تحفظ حقّ الناس بقول الرأي، وحقّهم بممارسة المعتقد وعيش نمط الحياة الذي يريدونه، بما لا يتعدّى على حرّية الآخرين، وهو ما ينصّ الدستور اللبناني عليه، وإنْ بنسخته الحالية التي تحتاج إلى تعديلاتٍ كثيرة.