بمناسية تعديلات الثانوية العامّة في مصر
تأتي التعديلات الخاصة بنظام الثانوية العامة في مصر، والمعلنة أخيراً، وقد نسبت إلى وزير التعليم الجديد، محمد عبد اللطيف، لتقدم نموذجاً واضحاً لكيفية إدارة شؤون الدولة المصرية في ما يسمّى عهد "الجمهورية" أو "الخديوية الجديدة"، وهو أسلوب ينفرد بصنع القرار، ويتجاهل المشاركة المجتمعية في شأن أساسي من شؤونه اليومية، ولا يلقى بالاً للحوار بشأن مضمون هذه القرارات وتأثيرها السلبي، سواء في مجال الاقتصاد أو قطع الأشجار أو هدم المقابر التاريخية والأثرية أو بيع المستشفيات العامة وتأجيرها.
وكانت قد وجهت إلى الوزير انتقادات عدة منذ اختياره، سواء بالتشكيك في شهادته الدكتوراه، والتي ادّعى حصوله عليها من بعد، بالإضافة إلى الطعن في خبرته في مجال التعليم التي لم تتجاوز إدارته مدارس والدته. ويلاحظ أن الحكومة قد غيرت الإشارة إلى تعريفه من الدكتور إلى السيد، ما يعد اعترافاً بمصداقية هذه الانتقادات الموثقة بأدلة وبيانات.
ومن اللافت للنظر هذا التسرّع في إصداره تلك القرارات المهمة والمصيرية، بعد أسابيع فقط من اختياره ضمن التعديل الوزاري في يوليو/ تموز الماضي، في موضوع يعد محل اهتمام كبير لأولياء الأمور، كون هذه المرحلة التعليمية خطوة مهمة في مستقبل أبنائهم، لأنها تؤدّي إلى دخول المرحلة الجامعية.
ولا يعد هذا القرار الأول للوزير في هذا الشأن، بل سبقه قرارٌ آخر بتعديل قوائم العشرة الأوائل في الثانوية العامة، بسبب أخطاء في الأرقام!، ثم تلاها بإلغائه أخيراً مقرّرات أساسية، منها مواد الفلسفة والمنطق، والجغرافيا والتاريخ.
وشملت خطته إعادة توزيع المناهج الدراسية في المرحلة الثانوية بتقليل هذه المواد، وأن تبقى اللغة الأجنبية الثانية ومواد علم النفس والجيولوجيا والتربية الدينية خارج المجموع الكلي، موادَّ نجاح ورسوب، ودمج بعض المواد، من دون أن تلقي بالاً لمصير مدرسي هذه المواد، او تضع في اعتبارها التأثير السلبي لاستبعاد تلك المواد من الدراسة. ويشير الوزير إلى إجرائه حواراً مجتمعياً بشأن خطّته مع الخبراء والمعلمين ومديري الإدارات التعليمية ومجالس الأمناء والآباء والمعلمين والإعلاميين المتخصّصين بملف التعليم، وهو ما أنكره الجميع، إلا إذا كان حواراً "سرّياً"، بالإضافة إلى لامبالاته بما ظهر من ردود فعل سلبية ومنتقدة لهذه الخطة من خبراء في مجال التربية والتعليم.
لا ترى الدولة في التعليم والصحّة سوى أنها عبء على ميزانيتها، وتسعى إلى التخفيف منها، بإنشاء جامعات أهلية وخاصة بمصروفات ضخمة
إذن، يتحدّث الوزير عن "حوار" لم يسمع أحد عنه، ولم تنشر عنه وسائل الإعلام شيئاً، ولم يكن جزءاً من أجندة الحوار الوطني، بل جاءت تلك القرارات من عل، من دون أن يسبقها تمهيدٌ ولا حوار مع الجهات المختصة. ولم تجر مناقشة الموضوع من الأساس في لجنتي التعليم في مجلسي النواب والشيوخ، ولا طرحه على المراكز التربوية التابعة للدولة، ولا داخل نقابة المعلمين التي ما زالت موضوعة تحت الحراسة القضائية منذ سنوات. والأسئلة هنا: متى فكّر الوزير في إصدار هذه القرارات، والذي لم تتجاوز فترة توليه خمسة أسابيع؟ ومن طرحها عليه، هل جاءته كما هي من مؤسسة الرئاسة تنفيذاً لمطالب تخصّ صندوق النقد الدولي على سبيل المثال؟ لا أحد يعلم علة وجه الدقة. وهذه مشكلة أخرى تخصّ تغييب الحق في تداول المعلومات.
ويبدو أن الوزير لم يتعلم الدرس من وزراء سابقين دخلوا في مواجهات مع المجتمع، بإصدار قرارات متسرّعة أحياناً، ومكلفة مادياً لميزانية الدولة، مثل الاستعانة بالتابلت أو غيره من تلك القرارات المتعجلة. ولسنا ضد أي تعديلات في نظام التعليم الذي يعتبر القاطرة الأولى للتقدّم والتنمية في أي مجتمع، شريطة أن تؤدّي إلى تحسين المناهج وأوضاع المعلمين وتطوير البحث العلمي، بما يؤدّي إلى نقلة إيجابية في هذا النظام. وأن تكون هذه التغييرات محل مشاركة وحوار مجتمعي حقيقي، يحترم آراء الخبراء والمتخصّصين في هذا المجال .
من ناحية أخرى، تقدّم هذه القرارات نموذجاً يعزّز الاستهانة بالعلوم الإنسانية، وأنها ليست ذات فائدة، وانتقاد أولياء الأمور لتعليم أبنائهم في كليات الحقوق والآداب والتجارة، ونصحهم بتعلم البرمجة بحسب ما جاء في خطاب رئاسي أخيراً!. والواقع يفيد بأن التعليم لم يصل إلى هذه الدرجة من السوء إلا في السنوات العشر الأخيرة، وهو ما تؤكّده مرتبة مصر المتأخّرة في جودة التعليم عربياً ودولياً، وأصبح يمثل عبئاً على الأسر بسبب تكلفة الدروس الخصوصية، وفي ظل العجز عن تعيين مدرّسين جدد بمبرّر الميزانية، بالرغم من توجّه الدولة إلى تمويل نظام التابلت للطلاب!.
والمشكلة أن الدولة لا ترى في التعليم والصحة سوى أنها عبء على ميزانيتها، وتسعى إلى التخفيف منها، بإنشاء جامعات أهلية وخاصة بمصروفات ضخمة، واعتبارها من مصادر التمويل، وتبني منهج عسكرة الدولة بعمل اختبارات للمدرسين المتقدّمين للتعيين عبر هيئات تابعة للقوات المسلحة!.
ما دام هذا الأسلوب مستمرّاً في اتخاذ القرارات، علينا أن نتوقع مزيداً من الأزمات في الفترة المقبلة، في ملفات أخرى
من الواضح أن طريقة إصدار الوزير هذه القرارات المفاجئة تمثل تعميماً لهذا النموذج في كل هيئات الدولة في مصر، وهي جزء من سياسة خروج القرارات بدون دراسات جدوى أو طرحها على البرلمان ومناقشتها داخل المراكز المتخصّصة، ثم عقد حوار مجتمعي بشأنها مزوداً بدراسات الخبراء والباحثين في هذا المجال، وإشراك المعلمين وهيئاتهم النقابية وأولياء الأمور في هذه القرارات المصيرية، ثم في النهاية إصدار القرارات.
وإذا مددنا الخط إلى نهايته، تم تبنّي هذا النموذج مسبقاً في السلوك الاقتصادي والسياسي بإصدار تكليفات بناء مشاريع اقتصادية من دون دراسة مسبقة، كما حدث مع التفريعة الإضافية لقناة السويس، واستكمال بيع الأصول، بدون الوضع في الاعتبار انتقادات الرأي العام والقوى المدنية المصرية. وتعمّد إحداث تغييرات هائلة عبر سياسات منفردة تقررها السلطة، يرى خبراء وسياسيون كثيرون خطأها وانعكاسها بالسلب على المجتمع وبنيان الدولة نفسه، وضرورة مراجعة هذا المسار. وفي الوقت نفسه، لا تُنصت السلطة التنفيذية لهذه الآراء، بالرغم من مهرجان "الحوار الوطني" الذي يأتي مجرّد ديكور شكلي لا يؤدي إلى مناقشة حقيقية، ليس في التعليم فقط، بل أيضاً في مجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى التي يتبناها النظام. وما دام هذا الأسلوب مستمرّاً في اتخاذ القرارات، علينا أن نتوقع مزيداً من الأزمات في الفترة المقبلة، في ملفات أخرى، مثل الصحة والإسكان والبيئة بما يؤدّي إلى مزيد من التدهور في حياة المصريين.