بوتين... تهديد نووي متصاعد
قد يكون استخدام السلاح النووي مستحيلاً في صراع دول متجاورة، كحرب روسيا على أوكرانيا، وأحد الطرفين يمتلك بالفعل سلاحاً نووياً، وقد اعتبرت المعايير الدولية أن لدى الأطراف التي تمتلك سلاحاً نووياً شيئاً من التعقل، بحيث لا تلجأ إلى هذا السلاح عند أول مواجهة، وكان ذلك الاعتبار صحيحاً إلى حد بعيد. فهذا السلاح لم يُستخدَم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتشكيل مجلس الأمن، لكن الرئيس الروسي بوتين، مع بداية حربه على أوكرانيا، لوّح بهذه الورقة، وتطوّع، في أكثر الأحيان، ليضع سلاحه على الطاولة، كرجل عصابات قارح يطلق التهديد بعد الآخر. أحياناً بشكل موارب يمكن استقراؤه بسهولة، وأحياناً من خلال قادته العسكريين أو السياسيين الذين أدلوا بتصريحاتٍ عن السلاح النووي على هامش مناسبات عدّة، وقد بدأت سلسلة التهديدات مبكّراً، وبعيد إطلاق بوتين حملته على أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022. ففي الشهر نفسه، خرج جنرال روسي يعمل في قيادة قوات الصواريخ، يدعى بوريس سولوفيوف، ليقول إن الحقيبة النووية الروسية قد فُتحت. وفي هذا التصريح تهديدٌ شبه مباشر بأن الساحر الذي يحمل القبّعة يمكن أن يطلق أرانبه منها في أي وقت. ومنذ تلك اللحظة، خرج سياسيون مقرّبون من بوتين، مثل ديمتري ميدفيديف، ليتحدّثوا في الأمر، ليلوّح بعدها بوتين شخصياً بأسلحته النووية. ففي سبتمبر/ أيلول من عام 2022، قال بوتين إن روسيا ستستخدم جميع الوسائل المتاحة إذا تعرّضت للتهديد. ومع نهاية 2022 قال إن سلاحه النووي المتقدّم يضمن لروسيا الردّ على التهديدات.
اتّخذت تهديدات بوتين في 2023 منحىً جديداً، فقد غيّر التكتيك المعتمَد، بتصريح مختلف ومتقدّم قليلاً عن مجرّد الحديث عن امتشاق السلاح النووي وإبقائه جاهزاً. ففي شهر مارس/ آذار، قال في مقابلة تلفزيونية إن لديه نية لنشر السلاح النووي التكتيكي في بيلاروسيا، ولبيلاروسيا حدود مشتركة مع كل من لاتفيا وليتوانيا، دولتي البلطيق اللتيْن كانتا على زمالةٍ مشتركةٍ مع بيلاروسيا في عهد الاتحاد السوفييتي، والعضوتين الحاليتين في منظومة دول حلف الناتو. كذلك لبيلاروسيا حدود طويلة مع بولونيا، وهي الأخرى من أعضاء الحلف، وتقف مباشرة في المواجهة مع روسيا، حيث حرصت على تقديم دعم مباشر لأوكرانيا في الحرب. وبحلول شهر يونيو/ حزيران من العام نفسه، صرّح في منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي أن السلاح التكتيكي النووي قد وصل بالفعل إلى بيلاروسيا، لكنه (بوتين) استخدم، في هذه المرّة،"بهارات" مخفّفة لتصريحاته عندما قال إن استخدام السلاح النووي ممكن نظرياً، وفي حالة وجود خطر على الأراضي الروسية، وأردف: "ولكن لا داعي لاستخدمه حالياً". نفذ بوتين جانباً من تهديده، وجرت الحرب كما لا يشتهي، فقد مُنيت القوات الروسية بهزائم متعدّدة على كل جبهات القتال. ثم خطا بوتين خطوة إضافية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عندما ألغى تصديق روسيا على معاهدة حظر التجارب النووية، معاوداً نشاطاً خطراً كان قد توقّف عدة عقود. وقبل أيام، ظهر بوتين أكثر حدّة عندما قال إن النووي سيكون حاضراً إذا حضرت قوات "الناتو" إلى أوكرانيا. وكان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قد دعا بالفعل إلى مساندة أوكرانيا مباشرة بالجنود، الأمر الذي أثار حفيظة بوتين النووية، فعاد إلى التلويح بالسلاح النووي، وإن كان من المؤكّد أنه لن يستخدمه في هذه الحرب. وكانت دول "الناتو" قد أمدّت أوكرانيا بأسلحةٍ تعد من المحرّمات كالدبابات وعتاد ثقيل استهدف مواقع في العمق الروسي، وبادرت أوكرانيا إلى الهجوم المضاد الذي تكبّد فيه الروس خسائر كبيرة، زعزعت استقرار الجيش الروسي، وتابعنا تمرّد مجموعة فاغنر في إثر ذلك.
تبدو اللعبة الآن أوضح، فالغرب يريد أن يستمرّ بوتين غارقاً في الميدان الأوكراني بعملية شدّ وجذب عسكريين، لا غالب ولا مغلوب فيها، وثمن ذلك امتصاص تهديده النووي الذي أصبح تواتُره مضبوطاً بمعدَّل تهديد واحد كل ثلاثة أشهر.