بوتين من "الحديقة الخلفية" إلى المستنقع!
ما كان مرجّحاً أن يكون عملية خاطفة تحوّل بسرعة إلى مستنقع للدب الروسي، بعدما دخلت مغامرته شهرها الثاني، وبدا عاجزاً عن أن يكون الآمر الناهي في "الحديقة الخلفية" لروسيا التي يحلم فلاديمير بوتين أن يجعل منها إمبراطورية جديدة. وبسبب عجزه عن التقدّم وعدم قدرته، في الوقت عينه، على التراجع، فإنّه يسلك نهجاً يعتمد الآن على التمركز، فقد تمكّن من الوصول، وهو ليس بكثير، وترويع السكان الأوكرانيين بالقصف العشوائي وتدمير المدن وتهجيرهم من جهة، وإحكام القبضة الحديدية في داخل روسيا بقمع الحريات وإسكات الأصوات المعارضة، وإغلاق الصحيفة الوحيدة المستقلة المعارضة "نوفيا غازيتا" التي يرأس تحريرها ديمتري موراتوف الحائز عام 2021 جائزة نوبل للسلام، لاستعمالها مصطلح "حرب" في الكلام عن اجتياح أوكرانيا (؟!)، عدا عن بدء هروب الأدمغة ورؤوس الأموال من جهة أخرى. عشية الغزو، كان الانطباع السائد أنّ بوتين لن يفعلها، وأنّ جلّ ما في وسع أميركا والغرب أن يفعلاه هو التهويل، لأنّهم يعرفون أنّ أوكرانيا التي يعرفها بوتين جيداً، وكانت جزءاً من روسيا في الزمن السوفييتي، لن تقف حجر عثرة أمامه، وسيكون في وسعه إنهاء العملية خلال أيام. وهو كان قد اشتغل على صورته وهيبته ونفوذه طوال سنوات حكمه الطويل الذي فاق عشرين سنة، خصوصاً في السنوات الأخيرة، صاحب شخصية قوية واستراتيجي محنك، وصاحب نفس طويل قادر على تحدّي أخصامه، خصوصاً رؤساء الدولة العظمى والإيقاع بهم، بدءاً من الرؤيوي و"المسالم" باراك أوباما مرورا بـ"المجنون" دونالد ترامب وانتهاء بـ"النعسان" جو بايدن. وقد أكّد ذلك، منذ بدء حربه في الشيشان التي تمرّس بها قبل أن يستلم الحكم فعلياً، ثم في تدخله عام 2008 في جورجيا ولاحقاً في أوكرانيا عام 2014 بضمّه جزيرة القرم من دون أن يلقى أيّ معارضة تذكر، ثم جاء استعراضه القوة وأطماعه التوسعية من خلال تدخله العسكري بأسطوله الجوي في سورية عام 2015 لإنقاذ النظام الأسدي الدموي، وتحويل سورية إلى محمية روسية، معزّزاً أسطورة الجيش الثاني الأقوى في العالم، فأمسك بخيوط اللعبة، وأحكم كمّاشته على الشرق الأوسط وضبط حركة القوى الإقليمية الثلاث، إيران وتركيا وإسرائيل على إيقاع ساعته، ناهيك عن المرتزقة (فرقة فاغنر) الذين نشرهم في عدة دول أفريقية، أما العرب فحدّث ولا حرج...
ما يريده بوتين من روسيا ألّا يتمكّن معارضوه من إيجاد مساحة لهم، ولو ضئيلة، للتعبير والاعتراض
من أوروبا إلى آسيا وأفريقيا أصبح بوتين سيد المسرح، وصاحب صورة الزعيم الذي لا يقهر، إلى درجة أنّ الغرور دفع به إلى الكشف عن وجهه الحقيقي، والتمثل بالزعيم السوفييتي الديكتاتور جوزيف ستالين، وإذ به يقع في الحفرة - الفخ أوكرانيا... هل أخطأ الحسابات أم أنّ الغرور قد أعمى بصيرته، أم أنّه انكشف على حقيقته؟ كان بوتين يعتقد أنّ الكرملين حيث يقيم هو نفسه الكرملين السوفييتي الذي يسعى إلى إحياء أمجاده بالمعنى السياسي والدولي والاستراتيجي، وأنّ أوكرانيا ستكون مجرّد عملية عسكرية خاطفة، بعدما اختبر في سابقاتها ردّات فعل أميركا وأوروبا التي أقصى ما وصلت إليه من إجراءات هو العقوبات، وأنّه، في أسوأ الاحتمالات، يمسك في وجه أوروبا بورقة سلاح خط أنابيب الغاز الذي يتزوّد منه الاتحاد الأوروبي بأكثر من 40% من حاجته الاستهلاكية. غير أنّ المفاجأة الكبرى التي لم يكن ينتظرها هي هذا الموقف الجماعي الشامل والمتضامن والمتماسك والصارم من أوروبا وأميركا وحلف شمال الأطلسي معاً في دعمهما الكامل، السياسي والعسكري واللوجستي، لأوكرانيا، وتطبيق عقوبات سريعة وشاملة وغير مسبوقة على كلّ المستويات، وفي المجالات كافة، رغم الضرر الذي بدأ يلحق بالاتحاد الأوروبي من جرائها على الصعيدين الاقتصادي والتجاري والتزود بالطاقة، إلى درجة أنّ الصين، خصم الولايات المتحدة والحليف لروسيا، اضطرّت للتعاطي بحذر، واضطرّت شركات صينية إلى تجميد نشاطاتها الاستثمارية في روسيا. في المقابل، ردّة فعل الدول الأوروبية هي، على الأرجح، انعكاس لسوء تقدير، وربما استخفاف، منها، واعتقادها أنّ بوتين لن يصل إلى حد الإقدام على اجتياح أوكرانيا، وإذ بها اليوم مرعوبةٌ تشعر أنّ الحرب أصبحت في عقر دارها، فطالما كان يتدخل في محيطه، ويمارس نفوذ الأقوى، ويتوسّع شرقاً، سعياً وراء استعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق، ومحاولة فرض نفسه دولة عظمى، كانت أوروبا وأميركا تغضّان النظر، كما فعلت عملياً الولايات المتحدة عندما تركته يسرح ويمرح في سورية، تماماً كما فعل أوباما ثم خلفه ترامب، فهل كان قراراً تكتيكياً أو تعبيراً عن عجز أم فخّاً؟ أما بايدن فقد دخل البيت الأبيض وأمامه هدفان أساسيان: إعادة تنشيط الاقتصاد الأميركي ومقارعة الصين التي تشكل التحدّي الأكبر بالنسبة لأميركا في القرن الواحد والعشرين. لكنّه أجبر على تناسي الشرق مؤقتاً، وها هو يحطّ مجدّداً في القارّة العجوز لمواجهة الحرب في داخل أوروبا ومشعلها بوتين الذي يعتبره الآن "مجرماً يجب أن يغادر السلطة"!
ما يقوم به بوتين محاولة تغيير معالم أوكرانيا ومقوماتها دولة حرّة ومستقلة في خياراتها وانتماءاتها
الصدمة قوية، إذ يبدو العالم خلال أقل من شهر بات يقف على توازن دولي خطير، وعلى رئيس الولايات المتحدة مهمّة تطمين الحلفاء الأوروبيين، ودعم صمودهم ووقوفهم صفا واحدا، نتيجة اضطرارهم للالتزام بعقوباتٍ ستكون مضاعفاتها سلبية على اقتصادهم وعلى حياتهم اليومية، من أجل وقف عمليات تمويل حرب بوتين من خلال شرائهم النفط والغاز الروسيين، ناهيك عن أزمة اللاجئين التي ستقع على كاهل أوروبا بشكل أساسي، والذين أصبحت أعدادهم بالملايين، خصوصا في دول أوروبا الشرقية المحيطة باوكرانيا؛ وقد فاق عددهم في بولندا وحدها أكثر من مليونين، لذلك خصّها بايدن بزيارة. وما يواجهه المعسكر الغربي الآن هو مفاجأته بالصعوبات التي يلقاها الجيش الروسي المعتبر من أقوى جيوش العالم، ما يجعل، بالتالي، مسار الحرب معقدا ومجهولا، ويطرح لديهم علامات استفهام عمّا إذا كانت ستتحوّل إلى حرب استنزاف طويلة أم إلى حرب قصف وتدمير منهجي للمدن. وخوفا من التورّط المباشر في الحرب ومخاطر توسّعها، فقد سارع إلى تقديم سلاح نوعي وكثيف، لتعزيز صمود الأوكرانيين الذين فاجأت مقاومتهم العالم، غير أن بايدن يبقي عينه على التنّين الصيني الذي سيكون له تأثير حاسم على التوازن الدولي، فيما لو قرّر دعم بوتين باسم "الصداقة بلا حدود" التي تجمعهما، كما وصفها البيان المشترك الذي صدر بين البلدين، عقب زيارة بوتين بكين في 4 فبراير/ شباط الماضي. أرادت الإدارة الأميركية استباق الأحداث وإحراج الصين، إلا أن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، يبدي حذراً شديداً في مقاربة الأزمة محافظا على شيءٍ من الغموض في الموقف، ونافيا، في الوقت نفسه، أن يكون بوتين قد طلب مساعدته، وبالأخص في محاولة الالتفاف على العقوبات. إذ إنّ الأهم والأبعد في خلفية المشهد بالنسبة لبكين مسألة أخرى مشابهة، وتعنيها بشكل مبدئي ومباشر، هي تايوان التي تتمتع حاليا باستقلالية، فيما الصين تتحيّن الفرصة لإعادة ضمّها إلى أراضيها، ولكن الرئيس الأميركي قد سارع، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلى تحذير بكين من أن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان إذا تعرّضت لهجوم من الصين (شبكة سي أن أن)، تماما كما يفعل حاليا مع بوتين في غزوه أوكرانيا.
ما يقوم به الآن بوتين محاولة تغيير معالم أوكرانيا ومقوماتها دولة حرّة ومستقلة في خياراتها وانتماءاتها، وطبعاً ليس بالضرورة أن تصبح دولة أطلسية أو معادية، وإنما ما يطرحه من شروط هو مجرّد تعمية عن الهدف الأساس الذي يريدها أن تصبح مجرّد دولة تدور في فلك موسكو، كما بعض جيرانها الذين انتقلوا من الحضن السوفييتي السابق وعادوا اليوم إلى الحضن الروسي البوتيني. وما يريده بوتين من روسيا ألّا يتمكّن معارضوه من إيجاد مساحة لهم، ولو ضئيلة، للتعبير والاعتراض، كما فعل مع المعارض ألكسي نافالني الذي جرى تسميمه، ونقل إلى ألمانيا للعلاج، ثم عاد إلى روسيا، واعتقلته السلطات مجدّداً فور وصوله إلى المطار. ومع بدء غزو أوكرانيا، صدر قرار بسجنه تسع سنوات. استراتيجية الرعب والإبادة الجماعية مارسها بوتين في غروزني (الشيشان)، ثم في حلب عام 2016، وهي من أساليب أنظمة استبداد القرن العشرين البائدة، مع الفارق أنّ بوتين يمارسها اليوم بنهم يريد الجمع والتوفيق بين العقلية الإمبراطورية وحداثة العصر. ومهما طالت الحرب على أوكرانيا أو جرى إيجاد تسوية مقبولة، في القريب، لها، فإنها ستشكل درساً للقيصر الروسي، عنوانه الأبرز عزلة روسيا في الأقرب، وتراجع اقتصادي عقوداً إلى الوراء!