بورديو وانحرافات الإعلام الفرنسي... تنبؤ أم حقيقة؟
تنبّأ عالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، باستحواذ المال على وسائل الإعلام لينحرف بها نحو خدمة الرأسمالية، وهو ما تتناوله هذه المقالة، ربطاً للظّاهرة مع ما يجري على مستوى منظومة الإعلام الفرنسية منذ بداية "طوفان الأقصى"، لنستدلّ منها أنّ الخط الافتتاحي والتّناول الإعلامي مُستقطبٌ وعنصريٌّ من منطلق الانحياز لقضيّة خلفيّتها الاتقاء بين الرأسمالية، وذلك الاستحواذ لخدمة مصالح طبقة بعينها، ليس في فرنسا فقط، بل في الغرب كلّه.
تتواصل سقطات الإعلام الفرنسي ويتواصل معها بروز التّوجّه الاستبدادي للنّظام السّياسي في فرنسا أو ما سمّي في الدراسات الأكاديمية التّراجع الديمقراطي، وتتمثّل السّقطة، هذه المرّة، في كشف الصّحافة والإعلام البديل (قنوات مستقلّة تبثُّ محتوياتها على الفضاء العنكبوتي) عن مقاربات رجل الأعمال الفرنسي، بولوري، المستثمر في كبريات المؤسّسات الإعلامية الفرنسية (قناة إخبارية، دار نشر، وعدة مجلات وصحف)، إذ عمد إلى إجبار العاملين في مؤسّساته، خاصة الإعلاميين والصحافيين، على توقيع عقد يتضمّن بنداً يحمل عنوان "الصّمت الأبدي"، أي تعهّد بعدم الحديث عن أي ملابسات أو تصرفات أو عرض وتسريب معلومات عن كل ما يحدث في تلك المؤسّسات الإعلامية التي يمتلكها رجل الأعمال، و كلّ تجاوز للبند يعرّض أصحابه للمتابعات القضائيّة ولغرامات مالية، كان لأحد الصحافيين الحظّ السيّئ للوقوع فيها، بعد ملاحقات أمام مفتشيّة العمل في باريس.
لا تتناول هذه المقالة الانحياز الذي أبدته الصحافة والإعلام الفرنسيان في خضمّ أحداث "طوفان الأقصى"، وفتح تلك المنابر الإعلامية أمام أصواتٍ عنصريةٍ ومعاديةٍ للفلسطينيين والعرب والمسلمين لكيل التهم بالإرهاب والدّعوة علانية إلى التّنكيل بساكنة غزّة وقتل الأطفال والنساء، دونما رادعٍ من أخلاقيات أو اعتبارات قانونية، بل تركّز هذه السطور على ظاهرة اختلاط المال بالسياسة، بل بالمشاريع الحضارية المنحرفة على غرار حالة رجل الأعمال بولوري، ناهب الخيرات الأفريقية، حيث يمتلك عشرات المصالح والمشاريع، وحيث ثبت لجوؤه إلى الابتزاز ومقارباته بالتجاوزات، سواء للحصول على المشاريع أو لنشر الفساد، حتى تبقى مشاريعُه قائمة في الدول الأفريقية التي ينشط فيها.
أصبحت ظاهرة اختلاط المال بالسياسة وتحوُّل السّياسة إلى بهرجة إعلامية على الطريقة الأميركية من مميزات الديمقراطية الفرنسية
تحدّث الصحافي الضحية، في لقاء إعلامي، عن تهديد بولوري بتحويل الدّيمقراطية الفرنسية إلى استبدادٍ من خلال أفعاله التي يحاول فيها ابتزاز الطبقة السياسية الفرنسية بهدف التمكين لمشروعه الذي قال عنه إنه مشروع يميني، بل يميني متطرّف، إضافة إلى خلفيتين خفيّتين، هما الدّينية (الكاثوليكية) والحضارية (إبراز التّفوُّق العرقي للبيض أو إرادة أن تكون فرنسا فضاءً للفرنسيين من ذوي البشرة البيضاء، دون غيرهم من السكّان أو المواطنين الآخرين). يستمرُّ الصحافي في الحديث ليشير إلى الخطّ التحريري للإمبراطورية الإعلامية الأخطبوطية لرجل الأعمال بولوري الذي يرتكز على تحويل الأنظار إلى الأخطار التّي تتهدّد فرنسا من جرّاء وجود المهاجرين وتعدُّد الثقافات والأديان فيها، وتَصَدَّر منابر تلك الإمبراطورية سياسيين من اليمين أو اليمين المتطرّف بل تحوّلت إلى ناطقة رسمية باسم اليمين المتطرّف، وخصوصاً بعض وجوهها البارزين على غرار مارين لوبان، وإيريك زيمور، وفيليب دوفيليي، وهم نخبة التوجّه اليميني الفرنسي المتطرّف، في العقد الأخير.
تتمثل الإشكالية في حديث جون باتيست ريفوار (صحافي قديم في قناة كانال بلوس، المملوكة لبولوري) في أن ما يقوم به بولوري يتماهى مع ما يقوم به الرئيس إيمانويل ماكرون، بل مع خطّ طبيعي يمتدُّ من رئاسة ساركوزي (2007 - 2012) مع عهدةٍ كانت ضعيفة للرئيس اليساري فرانسوا هولاند (2012-2017)، وهي فترة أظهرت التّوجّه السياسي والحضاري للرأسمالية الفرنسية، خصوصاً مع اعتلاء الرّئيس ماكرون الحكم، فأصبحت ظاهرة اختلاط المال بالسياسة وتحوُّل السّياسة إلى بهرجةٍ إعلاميةٍ على الطريقة الأميركية من مميزات الديمقراطية الفرنسية، ومعها برزت ظواهر تكميم الأفواه وانحراف الإعلام نحو اليمين بل اليمين المتطرّف وتمكين بعض رجال الأعمال من الاستحواذ على منابر كثيرة، يتشكّل من خلالها الرّأي العام الفرنسي، وصنع الإدراكات والمخيال الإعلامي، وعقلية المواطن الفرنسي والنخبة الفرنسية.
لا حديث في الإعلام الفرنسي إلا عن نظرية الاستبدال الكبير اليمينية والعنصرية، والإرهاب الفلسطيني والإسلاموي
يكفي للاطلاع على انحرافات الإعلام والدّيمقراطية الفرنسية مشاهدة قنوات وقراءة المجلّات والصحف الصادرة هناك، حيث لا حديث إلا عن نظرية الاستبدال الكبير اليمينيّة والعنصرية، والإرهاب الفلسطيني والإسلاموي، والتّهديد القادم من الهجرة، وطبعاً، الإسلام وما يُشكّله من خطر على الانسجام الثّقافي والحضاري لفرنسا الكاثوليكية وقلعة المسيحية الحصينة. والدليل الآخر أن المؤسّسات السياسية الفرنسية، الجمعية الوطنية (الغرفة الثانية للبرلمان الفرنسي) والوزارات، لا تتوقّف عن الحديث وتكرار تلك الإشكالات، واعتبارها منظومة تهديد لفرنسا في توازٍ، رهيب وخطير، يكتنف تجاهل أو غضّ البصر عن الإشكاليات الحقيقية التي تتصدّر عمليات سبر الآراء بالنسبة للمواطنين الفرنسيين البسطاء الذين تتراوح همومهم بين القدرة الشّرائية، والبطالة، وأزمة السّكن وعدم القدرة على التّوفيق بين الانتماء السّيادي لفرنسا وتسامي قوانين الاتحاد الأوروبي عليها، دونما اعتبار للخصوصيّات الاقتصادية والسّياسية لبلدهم.
يتحدّث بعضُهم في فرنسا عن حقيقة التراجع الفرنسي، على المستويات كافّة، خاصّة الاقتصادية منها، ويربطون بين ذلك وبين التوجّه الإعلامي والسياسي للتغطية بتلك التبريرات الأيديولوجية، وهو ما سمح بفتح الباب واسعاً، أمام أمثال بولوري للاستحواذ على منابر إعلامية تشكّل احتكاراً لوسائل صنع الرأي العام الفرنسي وتهديداً للتّعدّدية السّياسية ولحرّية التّعبير، وهما ركيزتان أساسيتان للدّيمقراطية وأيّ تخلٍّ عنهما أو إخلال للتوازن في استخدامهما هو تراجع عن المكاسب التي عملت فرنسا قروناً حتى تصل إليها، وهو تردٍّ/ ارتداد إلى الاستبداد على شاكلة ما شجّعته فرنسا في مستعمراتها الأفريقية حيث يرتع بولوري ورجال أعمال آخرون، وتغضّ المؤسّسات الرسمية الفرنسية الطرف عن تلك المقاربات الاستغلالية، وعن تجاوزات في حقّ الإنسان والطّبيعة، والتشجيع على الفساد والثراء غير القانونيين لكثير من النخب السياسية في القارّة السمراء.
نحن أمام ظاهرة تراجع للدّيمقراطية وتحوُّلٍ لحرية الإعلام قد يُشكّل توجهاً نحو تبنًّ لسياسات خطيرة جدّاً على الفضاء الجيوسياسي الفرنسي
تحدّث الصحافي الفرنسي المذكور، ضحيّة بولوري، في ختام لقائه الإعلامي، عن آفاق ما يجري في فرنسا، من تهديد للتعدّدية السياسيـــــــة والإعلامية، وقال إن إغلاق الأبواب أمام حرّية التعبير وتعدّدية الآراء سيؤدّي، حتماً، إلى بقاء أصوات اليمين واليمين المتطرّف مستحوذة وحدها على المنابر الإعلامية، وقد يكون من تداعيات ذلك صعود ممثّلٍ عن التيّار السياسي اليميني إلى سدّة الرئاسة، في رئاسيات 2027، وهو احتمال وارد مع غضّ النظر المؤسّساتي الفرنسي عن هذا التّحوّل الخطير سياسياً وإعلامياً واستمرار منع الأصوات الحرّة من الحديث أو الانتقاد لما يجري على الساحتين السياسية والإعلامية الفرنسيتين.
بالنّتيجة، لسنا أمام ظاهرة انحياز للكيان الصهيوني أو تبرير آلة القتل والإبادة الجماعية، سواء من الجهات الرّسمية الفرنسية (المؤسّسات السياسية) أو من منابرها الإعلامية، بل نحن أمام ظاهرة تراجع للدّيمقراطية وتحوُّلٍ لحرية الإعلام قد يُشكّل توجهاً نحو تبنًّ لسياسات خطيرة جدّاً على الفضاء الجيوسياسي الفرنسي وخصوصاً نحو الجنوب؛ نحو شمال القارّة الأفريقية حيث تبقى فرنسا مؤثّرة على الصعد كافة.
ختاماً، وفي معارضة لمضمون رواية الجزائري، بوعلام صنصال، المتماهي مع توجُّهات اليمين الفرنسي المتطرّف، الذي تخيّل صعود رئيسٍ من مهاجري الشمال الأفريقي، وتداعيات ذلك على فرنسا. لنتخيّل من خلال ما تقدّم، وعلى وقْع التّوجُّه الإعلامي والسياسي في فرنسا صعود إمّا مارين لوبان أو إريك زيمور، إلى سُدّة الرئاسة في 2027. كيف سيكون الوضع وكيف نواجه التّحوُّل الجذري لسياسات فرنسا؟
من ناحية أخرى، لا يمكن وصف تنبُّؤ بورديو بالانحرافات المذكورة للإعلام الفرنسي بالظّاهرة العابرة، بل هي من ميكانيزمات تسيير الرأسمالية الغربية، خصوصاً أنّ نسبة كبيرة من الإعلام يستحوذ عليها رجال مال ورأسماليون، قد تؤدّي، في النّهاية، إلى انهيار خرافة حرّيّة التّعبير وإقرار سقوط الدّيمقراطية أو أحد أركانها الأساسيّة، في العصر الحديث.