بوصلة مصر التائهة
خلال استقباله المبعوث الأميركي الخاص لمنطقة القرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، أعاد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، تأكيد موقف بلاده المشدّد على أن قضية سد النهضة الإثيوبي وجودية بالنسبة لها، وبأنها لن تقبل الإضرار بمصالحها المائية أو المساس بمقدرات شعبها. فيلتمان حطَّ الرحال في مصر، يوم الأربعاء الماضي، في سياق جولة دبلوماسية تشمل، بالإضافة إلى مصر، كلاً من السودان وإثيوبيا وإريتريا، في محاولة للتوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف، قبل أن تبدأ إثيوبيا، في موسم الأمطار في يوليو/ تموز المقبل، عملية الملء الثاني لسد النهضة على النيل الأزرق بشكل أحادي. وفي حين تزعم إثيوبيا إن السد ضروري لها لتوليد الكهرباء، تقول مصر إن بناء السد من دون تشاور معها سيقلص من حصتها بشكل كبير في مياه النيل، والذي تعتمد عليه بنسبة 97% في مياه الشرب والريِّ. أما السودان فيخشى الإضرار بسدوده التي أقامها على مجرى النيل وقدرتها على توليد الكهرباء.
كيف يمكن لدولةٍ محوريةٍ ومركزية بحجم مصر أن تحظى باحترام خصومها وأعدائها، وهم رأوها تتنازل عن سيادتها على بعض أراضيها من أجل المال؟
قد يبدو الخلاف الإثيوبي – المصري – السوداني تقنياً بين دولة منبع ودولتَي مصب، لكنه في الحقيقة يستبطن أبعاداً جيوستراتيجية هامة، إذ لا ترى إثيوبيا أن مصر والسودان يستحقان احترامها، وهي لا تأخذ تهديداتهما بجدية. ومن ثمَّ رفضت وساطات أممية وأفريقية وأميركية، على الرغم من أنه قُدّمت لها مقترحات تستجيب لاحتياجاتها، وتطمئن القاهرة والخرطوم في الوقت ذاته. وإذا كان الانطباع السائد عن السودان أنه دولة منهكة مفكّكة، تشوبها الانقسامات السياسية والعرقية والدينية منذ عقود، ولم يمض على وقوع آخر انقلاب عسكري فيه عامين، فإن مصر التي تبدو، للوهلة الأولى، دولة مهابة الجانب في أفريقيا والمنطقة، ليست أحسن حالاً. ومن ثمَّ، لا تعجب وأنت تتابع ذلك الازدراء الذي يبديه المسؤولون الإثيوبيون تجاه مصر.
سبق للسيسي أن حذّر إثيوبيا، غير مرة، من مغبة بدء ملء السد وتشغيله من دون اتفاق ملزم يحفظ حقوق الدول الثلاث ويراعي هواجسها. وصلت تحذيرات السيسي، قبل أسابيع، إلى حد الوعيد الصريح. "حقوق مصر المائية خط أحمر".. "سيحدث عدم استقرار إقليمي لو انتهك أحد حقوق مصر المائية".. "ذراع مصر طويلة وقادرة على مواجهة أي تهديد".. "لن يستطيع أحد أخذ نقطة مياه من مصر ومن يريد أن يجرب فليجرب".. "إذا تأثرت إمداداتنا المائية فإن رد مصر سيتردد صداه في المنطقة".. "أحذر من المساس بنقطة من مياه مصر، لأن الخيارات كلها مفتوحة".
المشكلة، تهديدات السيسي وقعت على آذان صمّاء في أديس أبابا. يوم السبت الماضي، أكد رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في رسالة تهنئة إلى الشعب بمناسبة عيد القيامة، أن الملء الثاني للسد سيتم في يوليو / تموز المقبل. وأضاف "لا يزال قطّاع الطرق اليوم يفعلون المستحيل لعدم رؤية قيامتنا، إنهم يقتلون أبناءنا ويشرّدونهم من مكان إقامتهم، لكن إثيوبيا ستنتصر، وستتم قيامة بلادنا وسيفشلون في الوقوف أمام نور القيامة".
إسرائيل والإمارات مفروض أنهما حليفان لنظام السيسي، ولكنهما يتآمران على إضعاف مصر، وكأنهما يقولان للسيسي إنه مجرّد وكيل عنهما في إدارتها فحسب
لا يمكن فصل ما يجري على الجبهة الإثيوبية عن تراجع مكانة مصر ووزنها في المنطقة. صحيحٌ أن تقويض تلك المكانة ليس حكراً على سنوات السيسي في الحكم، بعد الانقلاب العسكري عام 2013، بل هي عملية مستمرة منذ عقود طويلة. غير أن السنوات الثماني الأخيرة شهدت تسارعاً في وتيرتها. كيف يمكن لدولةٍ محوريةٍ ومركزية بحجم مصر أن تحظى باحترام خصومها وأعدائها، وهم رأوها تتنازل عن سيادتها على بعض أراضيها من أجل المال، كما حصل في التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير الاستراتيجيتين في البحر الأحمر للسعودية عام 2016؟ وكيف يمكن أن تبقى مصر مهابة الجانب، وهي تورّط نفسها، نيابة عن غيرها، في معارك هامشية لا تتماشى مع مصالحها الاستراتيجية، كما في ليبيا، أو في علاقاتها مع تركيا؟ بل، كيف يمكن للنظام المصري أن يحظى باحترام، حتى من يعدّهم حلفاء له، وهو يسمح لهم بتشكيل طابور خامس بين إعلامييه، وعلى أراضي دولته، كما تفعل الإمارات؟
لا أريد أن أتكلم هنا عن الفساد والقمع، فسجل إثيوبيا ليس أحسن حالاً، ولكن البوصلة الاستراتيجية لأديس أبابا مضبوطة، على عكس بوصلة القاهرة التائهة. وتكفي الإشارة هنا إلى المعلومات المتداولة عن دور إسرائيلي – إماراتي في تعزيز الموقف الإثيوبي، وربما في تحريض آبي أحمد على تحدّي مصر، وضرب هواجسها بشأن سد النهضة عرض الحائط. المفارقة هنا أن إسرائيل والإمارات مفروض أنهما حليفان لنظام السيسي، ولكنهما يتآمران على إضعاف مصر، وكأنهما يقولان للسيسي إنه مجرّد وكيل عنهما في إدارتها فحسب.
لم تهن مصر جرّاء ضعف كامن فيها، ولا لأنها غير قادرة على حماية مصالحها، ولا لأنها عاجزة عن النهوض، إنما هي هانت جراء طغمة تسلطت على قرارها وسيادتها وواقعها ومستقبلها. النتيجة، إذا سُيِّدَ الصغار دولاً تَرَدَّت مهما كانت عظمتها، ولنا في الولايات المتحدة خلال رئاسة دونالد ترامب عبرة.