بيدها تجدع إسرائيل أنفها
رغم كل ما قارفته من جرائم موصوفة، قبل قيامها بقوة الحديد والنار وبعده، وما مارسته من انتهاكات فظّة لأبسط حقوق الإنسان، لقيت إسرائيل تفهّماً واسعاً لدى الأوساط الغربية، ونالت الدعم والتأييد بلا حدود من الحكومات والرأي العام والإعلام الأوروبي، ليس بزعم أنها دولة الناجين من الهولوكوست فحسب، وإنما أيضاً لما روجته عن نفسها، ونجحت في تسويقه للعالم، بأنها دولة ديمقراطية، تتقاسم والغرب مبادئ الحرية، وقيم العدالة والمساواة، الأمر الذي غطّى على تلك الفظاعات المرتكبة بحق شعب اقتُلع من أرضه، وحجب كل التشوّهات الأخلاقية في صورة الدولة العبرية.
ومع الأسف، تمكّنت إسرائيل، طوال السنوات اللاحقة على نشأتها، من الحفاظ على تلك الصورة المزوّرة، وعلى ترسيخها في الوعي العام الغربي، بفضل ما بدت عليه هذه الدولة الصغيرة الفتية من حيوية وازدهار، وقوة عسكرية تغلّبت بها، مراراً، على كل جيرانها، الأمر الذي زاد نطاق الإعجاب، وصرف النظر الغربي عن ممارسات القتل والترويع والتوسع الاستيطاني، إن لم نقل إنه ضاعف من نهج التدليل والمحاباة لولد شقي استمرأ كسر لعبه، والخروج عن طوع أبويه، اللذين أفرطا كثيراً في الربت على كتفه، وبالغا طويلاً في التسامح معه، إلى الحد الذي طاش فيه الولد وخرج عن السيطرة.
والحق أن إسرائيل كسبت كثيراً من تماثلها مع الغرب في قيمه العصرية، وربحت من رفعها لواء شعاراته الكبرى في الحريات والتعدّدية وحقوق الإنسان والديمقراطية، بل وكادت روايتها المزيّفة أن تسود، وأن تنتصر، نظراً إلى مهاراتها التسويقية، وسيطرتها على وسائل الإعلام العالمية وحقل العلاقات العامة. وحدّث ولا حرج عما اعترى خطابنا البائس من لغو وعنترياتٍ وسذاجة في التعامل مع مخرجات ماكينة الدعايات الصهيونية البارعة في قلب الحقائق، وإنكار الوقائع، وذلك إلى أن تمكّنت الضحية، أخيراً، من الوقوف على قدميها من جديد، وتلاوة روايتها عن نفسها بنفسها باقتدارٍ وبلاغة، الأمر الذي راح يزيل، مع الوقت، الغشاوة عن العيون الزرقاء، ويعدّل من صورتنا السلبية، ويبدّل المفاهيم المستقرّة عميقاً عن حكاية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض".
غير أن الولد الشقي ازداد غياً وعنتاً مع التقدّم في العمر، بفعل ما ظلّ يلقاه من مراضاة وعدم مساءلة عن أفعاله، أو قل عن جرائمه، من رعاته وحُماته في الغرب، خصوصاً في الولايات المتحدة، إلى أن حدث التغير التدريجي الحثيث في الصورة الكلية للولد المدلّل، أي إلى أن غدت إسرائيل دولة توسّع واستيطان وتمييز في المرآة الأوروبية، دولة فوق القانون، لا تقيم وزناً لأي اعتبار أو مثلاً أعلى مما تمسّحت به في السابق من شعاراتٍ مخاتلة، الأمر الذي قلب الأمزجة حيالها، وبدّل النظرة التقليدية المتسامحة إزاءها، حيث راحت أوساط متنوّرة، من المفكّرين والإعلاميين والدبلوماسيين والحقوقيين والباحثين في الغرب، تتساءل بصوت مسموع، وتتشكّك علناً في ما إذا كانت دولة الاحتلال الوحيد في عالم اليوم ديمقراطية حقاً أم أنها دولة فصل عنصري.
ولعل الطفرة أخيراً في البنية السياسية والاجتماعية المتدحرجة من اليمين إلى أقصى اليمين الصهيوني المتطرّف، لا سيما بعد انتخابات الكنيست، ناهيك عن اشتداد المظاهر الفاشية الدينية في الخطاب العام، قد بدّلت المشهد بصورة أوضح من ذي قبل، وأسقطت ورقة التوت عن العورة المشينة، حيث بدت إسرائيل بكامل قبحها، وتمام فجورها، ليس في نظر الغرب فقط، وإنما أيضاً في أعين كثيرين من قادة الرأي والنخب والجنرالات، فضلاً عن بعض رجال القضاء وغيرهم، ممن بدأوا يستشعرون الخزي من الحال التي آلت إليها الدولة العبرية وانزلاقها إلى ما وصفوه بالنص الحرفي دولة مجنونة، وحكومة لصوص ومجرمين مطلوبين للمحاكمة.
تحدّث مسؤولون وجنرالات متقاعدون مراراً عما أسموه "لعنة العقد الثامن" في حياة الدول والإمبراطوريات، لا سيما في التاريخي اليهودي القديم، لكن أحداً منهم لم يتحدّث عن المسؤولية الذاتية حيال هذا المسار الانحداري المتفاقم بقوة دفع داخلية متصاعدة، ولم يُجب أصحاب هذه الرؤية الأحادية الضيقة عن سؤال: لماذا تتهتّك الدول من داخلها، وتسقط من تلقاء نفسها؟ ولماذا ينجرف المجتمع الاستيطاني أكثر فأكثر نحو العنصرية والفاشية؟ وكيف تواصل دولة نتنياهو وبن غفير وأمثالها من المطلوبين للقضاء تخريب البيت المسروق أساساً، وجدع أنف الدولة باشتهاء غريزي، تماماً مثل قصير الذي جدع أنفه لأمرٍ عُرف في وقت لاحق.