بين البطريركية المارونية وحزب الله
قال البطريرك الماروني، مار بشارة بطرس الراعي، في عظة الأحد 30 مايو/ أيار الماضي، إن "لبنان سيخرج من تحت الأنقاض، وسيعود دولة مستقلة سيدة وحرة وحيادية". لا خلاف بين الجميع على كيانية لبنان، المستقل والحر والسيادي، بل الخلاف على موضوع حياد لبنان، وسط صراعاتٍ تجتاح المنطقة من المحيط إلى الخليج، واصطفافاتٍ تأخذ شكلها العمودي في الانقسام بين محاور الدول المتصارعة.
تشتد الأزمة اللبنانية تأزمًا كلما شارف عهد الرئيس ميشال عون على نهايته، فالشرخ في المواقف والقرارات واضحٌ بين الأفرقاء المكونين لهذا البلد، كما أنّ الحلف القائم من خلال اتفاقية مار مخايل – بيروت بين التيار الوطني الحرّ وحزب الله 2006، ودعم الحزب المباشر وصول العماد عون إلى سدة الرئاسة، وضعا الأخير وتياره في تموضع حتى اتّهمه بعضهم أنه حليف إيران ومحورها في الصراع الدائر في المنطقة، على الرغم من تبرير العهد والتيار الموقف الذي أخذه رئيس التيار الوزير، جبران باسيل، في دعم موقف البطريرك من حيادية لبنان في الصراعات القائمة.
برز موقف حزب الله، البعيد كل البعد عن الحياد الإيجابي الذي أعلنته البطركية المارونية، في كلمة لأمينه العام حسن نصر الله، في ذكرى التحرير 2000، إذ اعتبر أن معركة سيف القدس كانت تُدار من بيروت في عمليات مشتركة بين حزب الله والحرس الثوري الإيراني والفصائل المقاتلة في غزة. وفي تعبيرٍ واضحٍ عن تموضع الحزب في محور الممانعة، اعتبر أن أي اعتداء على المقدسات الإسلامية سيُسقط كل الخطوط الحمر، ولا يعود من معنى للحدود المصطنعة بين الدول، في إشارةٍ أكثر من واضحة إلى عدم اعترافه بالحدود الجغرافية التي رسمتها معاهدة سايكس - بيكو عام 1916، وأن المحور القائم اليوم يمتد من إيران إلى اليمن فالعراق وسورية، ولبنان وطبعًا غزة في فلسطين.
الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان مردّه عقوبات غربية ومقاطعة عربية واضحة تهدف إلى إقصاء حزب الله من القيام بدوره الإقليمي
صحيحٌ أن بين البطريركية المارونية والضاحية الجنوبية مسافة لا تتعدّى بضعة كيلومترات، وهي سالكةٌ لكنها ليست آمنة، لما للتشنجات القائمة في طرح كل منهما المتناقض مع الآخر. لم تكن يومًا العلاقة متأزمةً بينهما كما هي اليوم، فهذا يعود إلى الظروف الإقليمية والدولية التي تنعكس سلبًا على لبنان. الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان مردّه عقوبات غربية ومقاطعة عربية واضحة تهدف إلى إقصاء الحزب من القيام بدوره الإقليمي، فالخارج يريد حياد لبنان من صراعات المنطقة، لذا هناك إصرارٌ على تشكيل حكومة تكنوقراطية محايدة، قادرة على الإنتاج والإنقاذ، وليس على أخذ المواقف والتغطية على ما يقوم به الحزب في المنطقة من خلال تشريعه في بيانها الوزاري.
الطريق سالكة نعم، ولكنها غير آمنة، سيما وأن الطرفين يعتمدان لغة التصعيد في خطاباتهما المتوالية، بهدف التوصل إلى الإجابة عن السؤال الكياني للبنان الجديد، فأي لبنان نريد؟ لبنان الحيادي أم المتموضع ضمن المحاور؟ كم تشبه المرحلة التي يمرّ بها لبنان اليوم أحداث عام 1958، حين شهد لبنان، من جنوبه إلى شماله، عصيانًا وأحداثًا داميةً كانت نتيجة إدخال لبنان في لعبة المحاور التي كانت تلفّ المنطقة العربية والدولية، بين المعسكرين الشرقي والغربي. وقد سقط يومها عشرات الضحايا والجرحى، لأن رئيس البلاد، كميل شمعون، كان يريد الانخراط في حلف بغداد بقيادة الولايات المتحدة، فيما كانت جبهة المعارضة تريد الانضمام الى التيار الناصري المنسجم مع مصالح الاتحاد السوفييتي والكتلة التي يمثلها. وانطلاقًا من الأحداث الدامية التي شهدتها الساحة اللبنانية، برزت المواقف الداعية لحياد لبنان، لا سيما للرئيس الراحل شارل الحلو، بالدعوة إلى حياد حقيقي وقانوني، أي لا للتوجه شرقًا ولا غربًا، بل على لبنان لعب دوره التاريخي مفتاحًا للشرق والغرب وهمزة وصل بينهما.
الخارج يريد حياد لبنان من صراعات المنطقة، لذا هناك إصرارٌ على تشكيل حكومة تكنوقراطية محايدة
بغض النظر عن الطروحات التي قد لا تهمّ اللبناني كثيرًا، هو الذي يهتم اليوم بكيفية تأمين لقمة عيشه، نتيجة تردّي الأوضاع الاقتصادية والمالية، إلا أن المؤكّد أن هذا الانقسام قد ينعكس على الوضع الأمني، ويحدث أحداثًا شبيهة بأحداث 1958، لذا قد يكون الحياد المسلح أفضل خيارٍ يجمع بين الطرحين، ويزيد من لحمة التواصل بين مكونات لبنان، فهو الحياد الذي يعطي للدولة المحايدة الحق في تجهيز جيوشها وتحصين حدودها، واتخاذ كل التدابير العسكرية وسواها التي تمكّن لبنان من الدفاع عن نفسه في وجه أي عدوان، إسرائيليًا كان أم إرهابيًا.
هكذا يستطيع لبنان الاستفادة من قدرة المقاومة العسكرية في صون حدوده البحرية والمائية والبرّية والجوية، من دون أن يتدخل في سيادة الدول الأخرى، كي يحافظ على أفضل العلاقات معها. انطلاقًا من هذا النوع من الحياد العسكري، يتمكّن لبنان من فرض رؤيته الاستراتيجية التي قد تعيد الثقة للمجتمع الدولي، ويصبح لسياسييه المقدرة على تشكيل حكومةٍ، من دون أي عائق من عوائق التدخل الخارجي.