بين الحديقة والغابة... قراءة في إدراك عالم جديد
تصادف إطلاق منسّق السّياسة الخارجية للاتّحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، قبل أيام، تصريحاً وصف فيه العالم بأنّه غابة محيطة بحديقة، هي الغرب، تحاول أن تتمدّد على حسابه وتهدّد مصالحه، أنه جاء بعد نشر دراستين رائدتين في التنظير للعلاقات الدولية في العدد 56 (مايو/ أيار) من دورية "سياسات عربية"، التي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في إطار سجال بين الباحثين محمد حمشي وسيد أحمد غوجيلي، وهذه مصادفة تتمثّل في أنّ فهمنا ما يجري في العالم لا يحتاج، فقط، إلى مراجعة للعمل التنظيري الأكاديمي، مع أهمّيته، بل يحتاج أيضاً إلى المزاوجة بين العمل العلمي وما يجري على مستوى الممارسة السّياسية، لأنّ التوصيف الذي أطلقه بوريل يشير إلى أفول النظريات الكبرى التّي كانت سائدة، وتمكّن من محاولة تفسير ما يحدُث في العلاقات الدُّولية بأنساق جديدة وقطيعة معرفية تطلق الجديد، وتقترح المسلّمات الكفيلة بالغوص، عميقاً، في تفسير ما يحدث في العالم.
تحاول المقالة الإشارة إلى الإدراك الذي حمل منسّق السّياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي على اعتقاد أنّ الغرب يحمل رسالة غير الرّسالة التي يحملها العالم، وهل أنّ ذلك التصريح كناية عن تغيير في اتّجاه نظرية صدام/ صراع الحضارات، من خلال مراجعة عبارة الغرب، لتضمّ، من الآن فصاعداً، حديقة معروفة المعالم بمبادئ محدّدة، بتاريخ معيّن، بفضاء جيوسياسي هو النّظام الأطلسي استراتيجياً/ عسكرياً/ أمنياً/ دفاعياً، والاتحاد الأوروبي معيارياً واقتصادياً، في حين أنّ الغابة التي كانت، وفق رؤية هنتنغتون، هي الشّرق بلونيه الأصفر والأخضر (كناية عن الصّين والإسلام) قد يتضمّن، لاعتبارات استراتيجية وحضارية جديدة، فواعل جديدة، في مقدمتها روسيا، ليصبح الصّدام/ الصّراع بين فضائين محدّدين، يشكّلان محور الفعل والفعل المضادّ على كلّ المستويات، إلى درجة أنّ بعضهم بدأ يتحدّث عن صراع وجودي بتجديد الحديث عن السّلاح النّووي الذّي قد يكون السّلاح الذي سيحسم المعركة، ومعها سمعنا عن الملحمة الأخيرة (هرمجدون) كما سمعنا ترديد الفاعلين، من كلا المعسكرين، عبارات دينية من وحي المذاهب التي يعتنقونها، والتي تتحدّث عن حسم الصّراع، وصورة العدو وكيفية الخلاص منه، بل وجوب الخلاص منه.
التنظير الذّي شكّل عقبة كأداء وفق المدارس الكبرى في العلاقات الدُّولية، لن ينتهي إلى التّوافق على نظريةٍ نقديةٍ انتقائيةٍ
ويكون تمام المصادفة مع الدراستين المذكورتين في أنّ التنظير الذّي شكّل عقبة كأداء وفق المدارس الكبرى في العلاقات الدُّولية، لن ينتهي إلى التّوافق على نظريةٍ نقديةٍ انتقائيةٍ، تكون قادرة على تفسير مسارات الأحداث وأنساقها في إطار الفوضى التي هي أساس النّظام الدُّولي في حركية الصّراع فيه، كما أنّ تلك الصُّعوبات لن تنتهي، أيضاً، إلى التّوافق على أنّ المدارس الكبرى قامت بما يمكن أن تقوم به، لكن العالم قد يكون، بتعقيده، قد أذن لها بالأفول، وخصوصا أنّ تلك النّظريات أضحت عاجزة عن توفير مقاربات وأدوات كمية أو كيفية لفهم الجدلية بين الحديقة والغابة دافعا لنا، في نهاية المطاف، عطفا على ما جاء في تلكما الدّراستين، وسعيا إلى تفسير تلك الجدلية، إلى اقتراح مسار يبقي على العمل التنظيري المعتاد (المدارس الكبرى في العلاقات الدُّولية)، لكنّه، في الوقت نفسه، يسمح بفتح الفضاء الأكاديمي والبحثي على آفاق جديدة للمراجعة للأنساق والمسارات المتشابكة والمعقدّة التي نحتتها العلاقات الدّولية، خصوصا مع ظهور فواعل جديدة أو تأثير الأحداث غير المتوقّعة، على غرار جائحة كورونا وبروز الحاجة للعالم الافتراضي أو العمل عن بعـد، ومآلات ذلك في صراع عالمي محتدّ على من يسيطر على الكوابل، المعادن الثّمينة والنّادرة، الجيل الخامس للإنترنت، عالم الميتافيرس، الذّكاء الاصطناعي، وغير ذلك من التّحدّيات الجديدة التي ستكون بمثابة قطيعة معرفية أو تغيّر لمسلّمات العلم والعلاقات الدولية ونماذجها من ذلك الفضاء البحثي الكبير.
مع بداية العام المقبل، 2023، يكون قد مرّ عقدان على اقتراح هنتنغتون، في نظريته لصدام/ صراع الحضارات، حلّا لمعضلة "نهاية التّاريخ" لفوكوياما التي كانت تتحدّث عن نهاية التّاريخ، أي توقّف المحور الصّناعي العسكري، بالنتيجة، عن إدارة معركة الوجود للنّظام الرّأسمالي بين مسلمتيه، النُّمو والكساد، في دورته أو ميكانيزم عمله، كما يقول اليساريون. ولعلّها مناسبة للتعمّق أكثر في الأسباب التي دعت جوزيب بوريل إلى إطلاق ذلك التّصريح، زاعمين إنّ ما يُصرّح به السّياسيون محسوب ودقيق، وليس مجرّد كلام اعتباطي، ولتكون تلك الجدلية هي تجديد أو مراجعة لتفاصيل نظرية هنتنغتون، من ناحية، ويكون ذلك فرصة لنا، من ناحية ثانية، لتقديم سعي وسط بين أفول نظريات العلاقات الدُّولية الكبرى وسيطرة نظرية تحليلية انتقائية بدلا من ذلك، طبعا وفق فهمنا ما جاء في دراستي حمشي وغوجيل في دورية "سياسات عربية".
أضحى الصراع بين الحديقة والغابة وجودياً، أي صفرياً، لا يمكن أن ينتهي إلّا بانهزام الطرف الخاسر في المعركة الحاسمة، بل زواله
لم يكن بوريل، وفق تحليلات لمكان (وزمان) إطلاقه التصريح المذكور، يريد التعبير بالكناية عن انقسام العالم إلى حديقة بمضمون سلام وغابة كلها توحش، بل كان يريد رمي حجر أو أحجار في مياه راكدة، لتعكيرها بالنقاش، لكن مع الإشارة إلى أنساق تأسّست منذ عقدين مع تحديد ما تغيّر فيها، مع بقائها قادرة على تفسير ما يحدُث في العالم، وهي اعتبارات ثلاثة تتضمّن الفضاء الجغرافي للغرب الذّي تقلّص ليضمّ المنظومة الأطلسية والاتحاد الأوروبي (مُضافا إليها اليابان)، تغيّر مفهوم الشّراكة الاستراتيجية، لتكون وفق الخضوع التام لتلك المنظومة الغربية، ومثالها انتقادات الغرب وأميركا، على وجه الخصوص، للشريك الاستراتيجي، السعودية، على ما اتّخذته في إطار "أوبك+" من تخفيض للإنتاج، وحديث وزير الخارجية الأميركية، بلينكن، عن الإضرار بالاقتصاد الأميركي، هو تصريح بالخصومة والعداوة للولايات المتحدة. أما الاعتبار الثالث فهو طبيعة الصراع بين الحديقة والغابة الذي أضحى وجودياً، أي صفرياً، لا يمكن أن ينتهي إلّا بانهزام الطرف الخاسر في المعركة الحاسمة، بل زواله، لأنّ التحديات التي جيء أعلاه على مؤشراتها، مستقبلاً، لا تحتمل التنافس، بل تحتمل مسلّمتي الهيمنة و الخضوع، ليس إلّا.
وقد جاء في أحد تحاليل تلك الجدلية أنّ الممارسات التي يسطّر لها القطب الرسالي، الحديقة، لا يمكن أن تكون رساليةً بمنطق الاحترام لمن هم في الغابة، بل بمجرّد الخروج من الحديقة لاحتواء مخاطر الغابة، تجب مجاراة العدو في شراسته، ووحشيته وممارساته أيّا كانت درجة السُّوء فيها. ولهذا يجرى الحديث عن مفارقة عجيبة، وهي اعتبار أنّ التدريب والمساعدات العسكرية لأوكرانيا دفاعاً عن الحديقة، في حين أنّ أيّ مساعدة لروسيا حتى بخفض الإنتاج النّفطي في "أوبك+" هي وحشية، ويمكن أن تكون مدعاة لرسائل من جماعات ضغط في مجلس الشيوخ أو الكونغرس لإيقاع عقوبات على هذا البلد أو ذاك. كما يستدعي الاحتواء لمخاطر الغابة التعامل بآليات توحشها نفسها، ولو اضطرّ الأمر إلى غض النظر عن قوانين احترام الآدمية، تماماً مثل ما حدث غداة هجمات "11 سبتمبر" في العام 2001، وإقرار الولايات المتحدة قانون "باتريوت أكت" الذي فتح الباب، على مصراعيه، لكلّ التجاوزات التي رأينا جانباً منها في غوانتانامو، وأبو غريب، والسجون السرية، أو مخطّطات القتل التي أضحت لعبة بالمسيّرات (الدرونز)، وعبر العالم، كلّه.
العالم كله لا يبحث إلا عن مصلحته في إطار تحالفات عرفت كثيرا من التغيّر، وخرجت عن المألـوف أو المتوافق عليه
بالنتيجة، ليس الصدام/ الصراع الحالي اقتصادياً، كما أنّه ليس استراتيجياً/ أمنياً/ دفاعياً/ عسكرياً، في طبيعته، فقط، بل هو كذلك، لكن بتوصيف جديد... إنّه صدام/ صراع وجودي بمسلمات الخضوع، الهيمنة الكاملة والولاء الإكراهي للعدُّو، ذلك أنّ التغير المناخي سيغيّر حقائق كثيرة، كانت أزمة جائحة كورونا قد أبرزت أوجهاً منها، عندما توقّفت سلسلة الإمدادات وأضحى العالم كله لا يبحث إلا عن مصلحته في إطار تحالفات عرفت كثيرا من التغيّر، وخرجت عن المألـوف أو المتوافق عليه، قديما، قبل الجائحة وفي النظام العالمي السابق التنافسي والمتّجه نحو تعددية قطبية مع هيمنة أكيدة أميركية، بداية، ثم بمشاركة صينية رفضت روسيا أن تغيب عنها، بأيّ شكل.
هل تسمح تلك المنظورات المعروفة في العلاقات الدولية بتفسير التّغيُّر الحادث، وهل ستسمح بفهم أعماق تلك الجدلية ومآلاتها، أم أنّ العمل جار، في إطار أنساق جديدة، ومراجعة مستمرّة لأدبيات العلم والتنظير، إلى تبنّي مقاربات جديدة كانت مختصرة في سؤال كان داريو باتستيللا (أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بوردو الفرنسية وصاحب كتاب في نظريات العلاقات الدُّولية) يُصدّر به محاضراته، ومضمونه "لماذا نحتاج إلى التنظير في العلاقات الدولية؟" باصماً أنّ تعريف النظرية يتضمن الاتجاه إلى التفسير. لكن، مع الجدلية التي نتحدّث عنها بشأن المقابلة بين ثنائية الغابة والحديقة، ومع التغيّر الحاصل في العالم، هل الحاجة ماسّة إلى التنظير أم إلى استيعاب تغير المسلّمات، ثم إحداث القطيعة المعرفية مع القديم والبناء عليه باقتراح فهم جديد، وتنظير يليق بالمرحلة وتحدّياتها الجسيمة؟