بين ترامب وهاريس: انقسام عمودي حادّ للناخبين الأميركيين
جاء إعلان جو بايدن، من مقرّ عزلته في إحدى المُدن الأميركية الشاطئية بسبب إصابته بكوفيد - 19، الانسحاب من السباق الرئاسي، مُتأخّراً، لكنّ الرئيس الأميركي الـ46 يعتبر نفسه مُنقِذاً للديمقراطية في 2020، وقاد أميركا إلى التعافي من إرث سلفه ترامب وجائحة كورونا، ويُضحّي على مذبح طموحه في 2024، بعد الخيبات التي سبّبتها مناظرته الرديئة ضد ترامب، ويرضيه أن يُعوِّض فشلَه بألّا تقابل أنانيّته نرجسيّة ترامب، بعد دعمه ترشيح نائبته كامالا هاريس، معيداً بذلك حالة النشاط إلى الوسط الديمقراطي.
كاد ترامب أن يضمن العودة إلى البيت الأبيض بمواجهة سهلة مع رئيس مُرشّح عجوز ومريض، ينقسم حوله الديمقراطيون أنفسهم، قبل أن تنقلب عليه الطاولة باقتراب ترشيح هاريس ذات الـ59 عاماً، والتي حشدت، من اللحظة الأولى، الديمقراطيين لدعمها، ليصبح هو العجوز (78 عاماً)، الرئيس المقبل الأكبر سنّاً في تاريخ الولايات المتحدة. يعتبر ترامب، المُرشّح الشعبوي والرئيس السابق، أفضل من يُمثّل طموحات رجال الأعمال والشركات الكبرى، ويتوافق مع معتقدات اليمين المُتطرّف في الولايات المتحدة، قضى حياته السياسية والإعلامية في التقسيم العرقي والجندري، ويحاول اقتناص الضوء، وناخبوه هم شرائح واضحة الحدود وغير مُتردّدة. فيما هاريس، نائبة الرئيس بايدن، التي تقف إلى يمينه في قضايا تقدّمية، والمُرشّحة السوداء من أصول أفريقية وآسيوية، لم يحسم الديمقراطيون ترشيحها بعدُ، في انتظار المُؤتمَر الحزبي في شيكاغو في 19 أغسطس/ آب المُقبل، لكنّها تتلقّى الدعم من كبار الديمقراطيين، الذين ينصحون بالاتحاد لدعم هاريس، بدلاً من الدخول في عملية الترشيح المفتوحة للحزب، التي ستُبدّد الجهود وتضيّع الوقت.
كاد ترامب يضمن العودة إلى البيت الأبيض بمواجهة سهلة مع رئيس عجوز ومريض، قبل أن تنقلب عليه الطاولة باقتراب ترشيح هاريس
يتهجّم الجمهوريون على هاريس في أمور عدّة، منها إثارة ملفّ الهجرة الذي يحظى بشعبية كبيرة بين الناخبين، ويُشكّل نقطةَ ضعفِ الديمقراطيين التي سيغتنمها ترامب، إذ فشلت في مُهمّة ضبط الحدود مع المكسيك الموكلة إليها من بايدن. وهناك سياساتها في مواجهة التضخّم، حيث ستتابع خطّة بايدن في فرض التشدّد في الإجراءات المالية على البنوك، وسبق أن صوّتت ضدّ إلغاء القيود التنظيمية على بنوك "وول ستريت"، والحدّ من التخفيضات الضريبية التي منحها ترامب للأغنياء "هبةً"، حسب وصفها. ولها سجلّ حافل في الدعوة إلى تقديم مزايا ضريبية أكثر سخاءً للأميركيين من الطبقة العاملة، والدعوة إلى فرض زيادات ضريبية أكبر على الشركات، ودعم المزارعين المُتضرِّرين من سياسات ترامب، والمُطالبة برعاية صحّية شاملة، وإعفاء ديون القروض الطلّابية وحماية المُستهلِك، إضافةً إلى خطّةٍ للاستثمار في العقارات بأسعار معقولة، وتمويل طارئ للفقراء، ومساعدة المهمَّشين. بالتالي، هي تُلمِّح إلى تقليص الفجوة في تفاوت الثروات عبر اقتراح مزيد من الضرائب على الأغنياء، وهذا يعني أنّ حملتها تراهن على دعم الطبقة الوسطى والعمّالية، وربّما الفئات الأكثر فقراً.
يتّهم الجمهوريون هاريس بالتستّر على تراجع صحّة الرئيس، وبأنّها بلا خبرة، بعد تخبّطها في المُقابلات وفي المناظرة ضدّ ترامب في 2020، وانسحابها من الترشّح للرئاسة باكراً. ستحشد هاريس وحملتها الديمقراطية، أسوة بائتلاف باراك أوباما في 2008 و2012، الناخبين السود، ومن الأقلّيات، والناخبين الأصغر سنّاً، فضلاً عن مُراهنتها على دعم الأطياف التقدّمية، ما سيمكّنها من حسم مكاسب ضدّ ترامب في بعض الولايات المتأرجحة. قد يدعمها اليسار الأميركي أيضاً ضدّ ترامب، بعد أن وصفها في 2019 بأنّها شرطية بسبب خلفيتها المهنية مُدّعيةً عامّةً؛ فهي المسؤولة عن ملفّ الإجهاض، الذي يبدو أنّه من أقوى القضايا لتحفيز القاعدة الديمقراطية، بعد سقوط قضيّة رو ضد وايد في 2022، وهي قرار المحكمة العليا الأميركية في 1973 بأن دستور الولايات المتحدة يحمي المرأة الحامل في اختيار الإجهاض من دون قيود. فيما كان بايدن مُتردّداً في هذه القضية، وله سجلّ في دعم بعض القيود على ذلك.
الملفّ الأوكراني نقطة خلاف حادة بين المُرشحين، ففي حين أن أي رئيس ديمقراطي سيكمل إرث بايدن في دعم أوكرانيا، رغم بطء وتيرة المساعدات والقيود على استخدام الأسلحة الغربية، وعد ترامب بإنهاء الحرب في أوكرانيا في يوم واحد، ونائبه جي دي فانس كان الأكثر معارضةً في الكونغرس للمساعدات الأميركية لأوكرانيا. لكنّ قراراً متهوراً بإيقاف الدعم فجأة سيربك الإدارة الأميركية، ومن الممكن تعطيله مثلما فعل الكونغرس في تعطيل قرار سابق لترامب في 2019 بالانسحاب من سورية.
صعود اليمين المُتطرّف في أوروبا قد يكون في مصلحة هاريس، ويشي بالمشاعر المناهضة لمن يشغلون مناصبهم، وأنّ ترامب ليس ملائماً للتغيّر
بعكس الملفّ الأوكراني، يتّفق المُرشّحان على الاستمرار في دعم إسرائيل في الحرب على غزّة، باعتبار أن واشنطن أقامت استراتيجيتها في الشرق الأوسط على هذا الدعم. وتطلق تلّ أبيب حملة دعم لترامب بعنوان "الصديق الحقيقي لإسرائيل". ورغم أن هاريس لن تكون لها مواقف مناقضة للسياسة العامة لإدارة بايدن، وستتبنّى الدعم السخي لإسرائيل، وضدّ حقوق الفلسطينيين، لكنّها سبق أن ضغطت على مسؤولي الإدارة للتعاطف مع الفلسطينيين، وخفّفت الضغط على بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن، اللذين حرّضا على الإبادة الجماعية. بالتالي، بانسحاب بايدن من السباق الرئاسي خسرت تلّ أبيب صديقاً وَصَفَ نفسه بـ"الصهيوني"، وهذا سيعني أنّ جماعات الضغط الصهيونية الأميركية ستدفع أصواتها لمصلحة ترامب. سيكون على هاريس توخّي الحذر في تصريحاتها، مع تصاعد الإدانات الدولية لإسرائيل وزعيمها نتنياهو، وتغيّر في المزاج العام الدولي، وظهور جناح تقدّمي في الحزب الديمقراطي يطالب بإعادة النظر في دعم إسرائيل وسحبه.
تأتي الانتخابات الأميركية في زمن يتصارع فيه القادة الغربيون في أوكرانيا، ويزداد العنف في الشرق الأوسط مع الحرب العسكرية الإسرائيلية على غزّة، واحتمال دخول إيران (شبه النووية) في خطّ المواجهة، وتصاعد نفوذ الصين في آسيا، وصعود اليمين المُتطرّف في أوروبا. العامل الأخير قد يكون في مصلحة هاريس، فدرس الانتخابات في بريطانيا، وفي باقي أنحاء العالم، يشي بارتفاع المشاعر المناهضة لمن يشغلون مناصبهم، وأنّ ترامب ليس ملائماً للتغيّر.