بين تقلّبات الصدر وطموحاته
فيما ينشغل العالم بتداعيات اغتيال العالم النووي الإيراني، محسن فخري زادة، وتصاعد المخاوف من احتمال اندلاع مواجهةٍ بين واشنطن وطهران، تسبق خروج الرئيس ترامب من البيت الأبيض، يشهد العراق، غير بعيد من ذلك، معركة كسر عظم من نوع آخر بين شباب الحركة الاحتجاجية وأنصار التيار الصدري الذين هاجموا ساحات الاعتصام في الناصرية، وغيرها من مدن محافظة ذي قار، ونكلوا بالمحتجين. وبهذا، يكون مقتدى الصدر قد كرّس نفسه عقبة في وجه التغيير، وخصماً لطموح الشباب إلى مستقبل أفضل، بعد أن كان يوحي أنه يقف إلى جانبهم، ويدعم مطالبهم في الإصلاح ومحاربة الفساد والتحاصص الطائفي والسياسي.
للصدر تاريخ طويل من التناقضات والتقلبات، منذ برز في المشهد السياسي العراقي بعد الاحتلال الأميركي عام 2003. إذ سارع الرجل، الذي ينحدر من عائلة دينية وسياسية بارزة في العراق، إلى إنشاء مليشيا "جيش المهدي" التي اتهمت بارتكاب مجازر طائفية على نطاق واسع خلال الحرب الأهلية التي اندلعت بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء في فبراير/ شباط 2006، لكن الصدر لم يلبث أن حلّ هذه المليشيا وتبرّأ من أعمالها، بعد أن صار مطلوباً لدى الأميركيين. ودخل الصدر في صراع مرير مع رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، الذي جرّد في مارس/ آذار 2008 حملة عسكرية أطلق عليها اسم "صولة الفرسان"، أخرجت جيش المهدي من البصرة. وقد أدّى صدامه مع السلطة إلى صعود أسهمه باعتباره زعيماً سياسياً وطنياً في مواجهة المالكي الذي صار رمزاً للهيمنة الإيرانية في العراق، لكن الصدر ما لبث أن أصاب جمهوره بالدهشة، عندما أعلن تفرّغه للدراسة والحصول على مرتبة دينية واختار قم لذلك، بدل التمسّك بحوزة النجف، وهي الحوزة الشيعية الأعرق في العالم، وحيث عاش ودرس أبوه وعمّه.
عاد الصدر من إيران ليتصدر المشهد السياسي العراقي من جديد في فترة ما بعد الانسحاب الأميركي عام 2011، ولعب دوراً مهماً في حرمان إياد علاوي من تشكيل الحكومة، على الرغم من فوز كتلته "القائمة العراقية" في انتخابات 2010، فانحاز إلى إيران ومرشحها (خصمه اللدود سابقاً) نوري المالكي، ومكّنه بالتالي من تشكيل حكومته الثانية التي أسهمت سياساتها الطائفية في صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). ومع اجتياح "داعش" غرب العراق واقترابه من بغداد، أعاد الصدر إحياء مليشياته القديمة تحت مسمّى "سرايا السلام"، وهي نفسها التي هاجمت المعتصمين في الناصرية.
يثير الصدر حيرة كثيرين بتقلباته التي لا حدود لها، فتارة يدعو إلى حل الأحزاب، ومقاطعة البرلمان، وتارة يدعو الناس إلى المشاركة في الانتخابات. اعتزل السياسة أكثر من مرة، لكنه عاد إليها في كل مرة. أثار دهشة كثيرين عندما زار أنقرة عام 2009، وطالبها بلعب دور أكبر في تحقيق الاستقرار في العراق، بعد أن كان "جيش المهدي" عاث فيه فساداً. وتسبّب بصدمةٍ أكبر في طهران، عندما زار السعودية والإمارات عام 2017، لكنه شوهد بعدها يجلس تحت قدمي مرشد الثورة الإيرانية، علي خامنئي. وكان قبل ذلك دان الحرب السعودية على اليمن ودعا إلى مقاومتها.
تحالف الصدر في انتخابات 2018 مع الشيوعيين، وفازت كتلته "سائرون" بـ 54 مقعداً في البرلمان، وعندما اندلعت الحركة الاحتجاجية في مدن الغالبية الشيعية في محافظات وسط العراق وجنوبه في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، أعلن الصدر تأييده لها، وقاد تظاهراتٍ لدعمها، وشكّل سرايا لحمايتها، كما طالب باستقالة عادل عبد المهدي، ودعم وصول مصطفى الكاظمي إلى الحكم.
ولكن الصدر يصبو الآن، على ما يبدو، إلى أن يظفر بمنصب الملك، بعد أن كان "صانع ملوك" منذ عام 2010، وهو يخطّط لخوض الانتخابات القادمة بنفسه، فجرّد أتباعه للخروج في عرض قوة يوم الجمعة الماضي، تمهيداً للترشّح والوصول إلى منصب رئيس الوزراء (ولاية فقيه بنسخة عراقية). لتحقيق هذا الطموح، على الصدر أن يتجاوز الفئات نفسها التي طالما ادّعى تمثيلها، والدفاع عن مصالحها، وكل من يقف في وجه طموحاته التي تقلبت بين قيادة مليشيا مسلحة، ورغبة في زعامة دينية على غرار زعامة عمّه (محمد باقر) ووالده (محمد صادق) أو زعامة سياسية على غرار زعامة جده (محمد حسن الصدر) الذي صار رئيساً للوزراء في العهد الملكي.