بين ثيران الحضارة وجحوش الجاهلية
تُرى، كم حربًا خلفيّة ستتمخض عن حرب روسيا وأوكرانيا، وهي الحروب الأخطر في رأيي؛ لأنها لا تدار بالمدافع، بل بانهيارات أخلاقية متوالية، كحروب التمييز العرقية التي بدأت بالفرز والانتقاء بين ألوان المتدافعين على أبواب القطارات والحافلات هربًا من جحيم الحرب، وليس انتهاء بحرب التنقيب في هويات من نجحوا بالهرب، لفرز من يحق لهم اللجوء من غيرهم، ومن سيحظى بالمأوى والاستقبال في دول أوروبية أخرى، ومن سيُركل على مؤخرته، وتغلق في وجهه الحدود والمعابر.
ثمّة فرق بين لاجئ ولاجئ، في العرف الغربيّ، الأول يحقّ له الاحتضان ونفض غبار السفر عن جبينه وثيابه، وإشعاره بأنه لم يغادر بلده أبدًا ما دام يحمل هوية "العيون الزرق" والبشرة البيضاء، والآخر كان حريًّا به أن يموت هناك، وأن يعتذر عن نجاته وحقّه في الحياة.
كنا نتحدّث سابقًا عن سقوط سياسيّ للغرب، عندما كان يكيل بمكيالين في القضايا الدولية البعيدة عنه، على غرار القضية الفلسطينية، غير أن حربهم الدائرة بينهم تضيف إليه سقوطًا أخلاقيًّا أشدّ قبحًا، كأن يعتلي نائب إسبانيّ (من حسن طالعي أنني لم أحفظ اسمه) منبر البرلمان محتقنًا، ويدلي بآراء غاية في الفجاجة، وهو يتحدّث عمّن ينبغي فتح أبواب البلاد له من لاجئي أوكرانيا مفتتحًا خطابه بعبارة: "أهلًا باللاجئين الأوكرانيين، لا للاجئين المسلمين"، ثم يضيف متحدثًّا عن الأوكرانيين: "هؤلاء النساء والأطفال وكبار السن يجب أن يرحّب بهم، وينبغي إدراك الفرق بين تدفق هؤلاء اللاجئين وغزو شبان من أصول مسلمة جرى إرسالهم إلى حدود أوروبا لاستعمارها وزعزعة استقرارها". ومن الواضح هنا أن حضرة الثور الإسبانيّ يستحضر عقدة الأندلس وفظائع فرديناند وإيزابيلا بحق المسلمين في حروب "الاسترداد"، كما يتناسى أنه إنما يعتلي رفات أزيد من نصف مليون ضحية أجهزت عليها الحرب الأهلية الإسبانية أواخر ثلاثينيات القرن المنصرم، وأفرزت دكتاتورًا سام البلاد شتى صنوف الخسف والاستبداد، بدعم من النازيين، نحو 36 عامًا، فهل يحقّ لصاحب جذر دمويّ مخجل على هذا الغرار أن يتحدّث عن الفوبيا الإسلامية أو غيرها؟
وفي باريس، تتكرر الحرب العرقية والطائفية نفسها، عندما يصرّح المرشح الرئاسي الفرنسي، إيريك زيمور (من سوء طالعي أنني حفظت اسمه)، فيقول: "يجب منح الأوكرانيين الذين تربطهم صلات عائلية بفرنسا تأشيرات دخول، على عكس أولئك الفارّين من النزاعات في الدول العربية الإسلامية". ويكرّر هذا "الديك الممعوط" الموقف الأخلاقي الهابط نفسه للثور الإسباني السابق عندما يحاول القفز عن إرث استعماريّ قذر أطاح نصف عدد سكان الجزائر في قرن ونيف، وبما انطوى عليه هذا الاستعمار من عذاباتٍ وزنازين وتحويل سجناء إلى فئران تجارب نووية، والأدهى أن الاستعمار نفسه نجم عن ثورة فرنسية تسربلت بمفردات الحرية وتغنّى بها العالم، بوصفها انعطافة جذرية في الحراك الإنساني العالمي، غير أن الحرية الفرنسية، والغربية برمّتها، تمييزية وانتقاويّة، عندما يتعلّق الأمر بشعوب ما وراء الحدود الأوروبية والأميركية. وهذا ما يدفعنا إلى ترجيح أن نصبح، نحن العرب، طرفًا في الحرب الروسية الأوكرانية، حتى وإن لم نخضها، ذلك أن أيّ حربٍ تندلع في أيّ بقعة سرعان ما تستدعي عقدة "الحرب الصليبية"، والعداء لكل ما هو عربيّ ومسلم.
ولئن حظي الثور الإسباني والديك الفرنسي بتصفيق داخليّ حاد لقاء هذه السموم التي تتخذ هيئة كلام وتصريحات على المنابر، فثمة أيضًا تصفيق خارجيّ ينبعث من قصور زعمائنا؛ لأنهم كانوا أنفسهم مبعث البلاء وجذره الحقيقيّ، بعد أن أوصلوا شعوبهم إلى قرار الهجرة واللجوء؛ لأنهم يريدون "مجتمعاتٍ متجانسة" على حدّ تعبير أحدهم من فئة "الجحوش"، الذي طرد نصف شعبه لتحقيق هذا "التجانس".. وفي هذا تمييزٌ من طراز آخر، بين موالٍ وغير موالٍ للزعيم "الجحش".
وفي المحصلة، قدر المواطن العربيّ أن يظلّ مراوحًا بين شتى صنوف التمييز ومطاردًا بين ثيران الحضارة وجحوش الجاهلية.