بين سنان أنطون وباسم خندقجي
كلاهما سعى إلى إزالة الإعجام. أزال الروائي العراقي سنان أنطون، وهو من أبرز روائيّي الموجة الجديدة في الرواية العربية، إعجام حقبة مضطربة وبالغة القسوة في تاريخ العراقيين، في روايته الأولى "إعجام" (دار الآداب، بيروت، 2003)، التي قدّمته روائياً مُتميّزاً ولافتاً إلى الأوساط الثقافية العربية، من خلال سرد بالغ الخشونة، إن على صعيد الأحداث، وهي قليلة، أو السرد نفسه ولغته المُتَهَكّمة، العارية من الاستعارات غالباً، من خلال مخطوطةٍ عُثِر عليها في أحد السجون، وتميّزت بعُجْمَتِها، فهي غير مُنقّطة، وأظنّ أنّ أجواءها انتقلت إلى نصوص أنطون اللاحقة، وتحديداً روايته "فهرست" (دار الجمل، بغداد، 2016)، من ناحية البنية والمشاغل. ... القسوة والقمع هنا يُقدَّمان من خلال رواية مُضادّة، تضع الأمورَ في نصابها المُفتَرَض، والنقاطَ على الحروف، فما نقرأه هو رواية المُهمَّش، المقموع، التي تنقُض رواية القامِع الكبرى، وتُضيء عذابات الإنسان الصغير وآلامه.
تبدو رواية أنطون بعيدة البعد كلّه عن مشاغل رواية باسم خندقجي "قناع بلون السماء" (دار الآداب، بيروت، 2023)، لكنّ محمولاتِهما تكاد تكون واحدةً، فخندقجي يكتب روايةً داخل رواية. ثمّة كاتب يرغب في كتابة رواية عن مريم المجدليّة، ويعيش تحت الاحتلال، فيتقمّص شخصية يهودي أشكنازي للدخول إلى "الكيبوتزات"، ويشارك في ورشة حفرياتٍ أثرية، بحثاً عمّا قد يقوده إلى أثر تاريخي واقعي لبدء روايته، ما يعني أنّنا إزاء هويّتيْن تتصارعان داخل الراوي، ما يوجِب إزالة الإعجام، طوال الوقت، عن أحدهما كي لا يُصبِحَ القناعُ هو الوجه.
فازت رواية خندقجي بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) لهذا العام، والجائزة تتمتّع بحدّ معقولٍ من المصداقية مقارنةً بجوائز أخرى، رغم كثير ملاحظات ومُؤاخذات عليها، وأهمّها التسييس، وتغليب ذائقات في التلقّي الأدبي على غيرها، لكنّ استمرار الجائزة، وصعود بعض الفائزين بها، ومواصلتهم الكتابة، جعل كثيرين يغضّون النظر عن مؤاخذاتهم.
بفوز خندقجي بالجائزة، وهو الأسير في السجون الإسرائيلية، والمحكوم بثلاثة مؤبّدات، أفلحت الجائزة في الإضاءة على رواية المُهمَّش، وصدّرتها إلى المتلقّين، بل وإلى العالم أيضاً، باعتبارها رواية مظلومٍ في وجه ظالمٍ، كما أضاءت عسف الصورة التي تعمل إسرائيل على ترويجها عن نفسها، فإذا هي بفوز خندقجي قوّة احتلال، تُصادِر الحرّيات وتقتل الناس وتعتقل الكُتّاب، كأنّ الفوزَ هدم سجناً صغيراً لكنّه محكم الإغلاق أمام أعين العالم كلّه، فها هي إسرائيل التي تحرص على احتكار دور الضحية تفعل أسوأ ما حدَث مع اليهود في الحقبة النازية.
هنا بالضبط يلتقي خندقجي ثانية مع سنان أنطون، ولكن خارج المَتْنِ الروائي، فقد اعتقل الأخير في جامعة نيويورك التي يُدرّس فيها في أثناء حمايته للطلاب المعتصمين نصرةً للغزّيين الذين يتعرّضون لحملة إبادة غير رحيمة، وجاء اعتقالُه أياما قليلة قبل فوز خندقجي، وشكّل الحدثان فضيحةً لإسرائيل وداعميها، وتعرية لخطابهم عن حرّية التعبير، ما يؤكّد أهمية الفوز والاعتقال في مواجهة مطالباتٍ، بعضها أقرب إلى المراهقة السياسية، تدعو إلى مقاطعة جائزة بوكر العربية، نظراً إلى سجل الدولة المانحة والحاضنة في مجال حقوق الإنسان، وتحالفاتها السياسية، ومقاطعة الجامعات الأميركية للأسباب نفسها تقريباً؛ فعلى وجاهة هذه المطالبات، إلا أنّها تفتقر إلى الواقعية، فما قد يكون ضرورياً وعملاً بطولياً في الأمس قد يصبح نوعاً من إطلاق النار على القدم اليوم أو غداً.
وأظنّ أنّ فوز خندقجي واعتقال أنطون يكشفان أموراً عدّة، أهمها غياب رواية المظلوم في العالم، جرّاء سوء إدارة الصراع وقصْره على العسكري والسياسي، وإغفال البُعد الثقافي له، فثمّة خساراتٌ كُبرى لغياب ما يمكن وصفها اعتباطاً بـ"اللوبيات" الثقافية العربية في الغرب، في الجامعات وووسائل الإعلام، وشركات الإنتاج السينمائي ومراكز الفنون، وثمّة إدارة بالغة السوء لمقدّرات الفلسطينيين ومكانتهم الحضارية والثقافية في محيطهم والعالم، فلا إدوارد سعيد أو أشباهه حالياً في الجامعات الأميركية، ولا مكان للمُنجز الفلسطيني الثقافي تحت الاحتلال في عواصم الغرب والأمم المتحدة.
هل فكّر المندوب الفلسطيني لدى الهيئة الأممية مرّة بعرض لوحة للتشكيلية الفلسطينية هبة زقّوت مثلاً، أو سواها، خلال سرده مظلومية الشعب الفلسطيني؟... خندقجي وأنطون فعلا، كلٌ على طريقته.