تاريخ موجز للعنف وشرق القاهرة
في روايته الجديدة "تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة"، يقدم الكاتب المصري، شادي لويس، مغامرة روائية مختلفة، إذ تدور كل أحداث الرواية في حيز زمني ومكاني بالغَي الضيق، حيث تستغرق الأحداث يوما واحدا، وفي حدود بضعة شوارع في منطقة عين شمس الشعبية المصرية.
على خلفية غلاف الرواية، اختار الكاتب مقطعا معبرا عن أبرز زواياها، حيث الراوي الطفل يحكي عن تخريبه ورفاقه اللعَب، تعذيبهم القطط والكلاب الصغيرة، إحراق أعشاش النمل. المغزى هو العنف المبثوث، والذي يتم التطبيع معه تماما، من دون أي شر متأصل عند ممارسيه.
الأب يضرب زوجته ويعنّفها ويستولي على أموالها، وتقبل الزوجة ذلك ببساطة، لأنها طبيعة الحياة، لكنها بدورها يمكن تمارس العنف ضد الطفل، الذي هو يمارس العنف ضد الحشرات والحيوانات والأطفال الآخرين.
كل هذا العنف هو تفاصيل في إطار صورة أوسع من العنفين، المجتمعي والسياسي، يمتد من أصغر التفاصيل، من سائق ميكروباص يسبّ الأم إلى أكبر الزوايا السياسية. وكل هذا العنف يختفي تحت السطح الذي يمكن أن يبقى هادئاً تماما. هكذا يختفي العنف المنزلي داخل منزلٍ مغلق، كما يختفي العنف المعنوي ضد راغبات الطلاق داخل الكنائس، بينما يتجاهل إعلام الدولة تماما أحداث العنف في الصعيد على يد الجماعات الإرهابية أو القوات الحكومية. يحدث "الجلج" في الصعيد، فلا يسمع أحد في القاهرة شيئاً.
هكذا ظهر الانطباع الزائف عن رتابة عقد الثمانينيات وهدوئه. لكن العنف قد ينفجر فجأة من تحت كل ما يغطّيه. تنفجر الأم بعد أن تتعرّض لضرب وحشي بحضور أصدقاء الأسرة، ويتزامن ذلك يتفجر العنف العام في أحداث الأمن المركزي عام 1986، حيث تدخل الجيش لإنهاء تمرّد القوات. وبالتوازي مع الخط الرئيسي الخاص بالعنف، اعتنت الرواية بخطٍّ آخر حول تاريخ اللغة، وكيف ظهرت منذ بدء الخليقة، حين كان الله "الكلمة".
وتجدر هنا الإشارة إلى أن "تاريخ موجز للخليفة وشرق القاهرة" أفضل روايات شادي لويس، من حيث لغته السردية التي تطوّرت بشكل لافت. اللغة فيها ليست منتجا محايدا، بل هي عبر التاريخ أداة متعدّدة الوجوه، وقد فقدت كونها أرضية مشتركة، ليس فقط بين مختلفي اللغة، بل بين من يتحدّثون بذاتها من خلفيات مختلفة. "كما لا يفهم الرجال النساء عادة، ولا المتحضّرون البرابرة، وكما لا يفهم البالغون خيالات الأطفال، ولا الميسورون يفهمون هؤلاء الذين في حاجة".
في مشهد لافت، يصف الطفل ردّ القس بمحفوظاته الدينية على شكوى الأم عنف زوجها له "كانت ماما تُنصت إلى هذا كله، وتفهم أنه لم يستمع بقلبه لكلمةٍ قالتها، ولم يفهم أيًّا منها، وهزّت رأسها متظاهرةً بالموافقة على كلامه. كلاهما تكلم اللغة نفسها في الحقيقة، المفردات نفسها والمعاني نفسها، لكن الخلاف بينهما كان متعلقًا بالأولويات.. كان أبونا يتحدّث عن الأمور الكبيرة والآلام الكبيرة والقديمة وعن الأبد، أما هي فقد كانت تتكلم عن الأمور الصغيرة وآلامها هي وعن النهاردة والآن، عن الكتاب المقدس عن الناس التانيين وشعب الرب ملح الأرض ونور العالم ومنظرنا قدّام الناس، وهي عن نفسها عن المرار الطافح كما تسميه".
تأتي الرواية في سياق المشروع الروائي للكاتب لويس. في روايته الأولى "طرق الرب" شهدنا حياة البطل القبطي الشاب مجهول الاسم في القاهرة. وفي الثانية "على خط غرينتش" نشهد مستقبله في لندن، أما هذه المرّة فنعود إلى ماضيه طفلا. وفي الثلاث يظهر البطل القبطي بعيداً عن الصور النمطية، فالمسألة الطائفية تظهر من دون خطابية زاعقة، بل في ثنيات مبثوثة ضمن سياق تفاصيل القصة التي كان يمكن ألا يختلف إطارها العام، لو كان البطل مسلما.
في الروايات الثلاث ثمة احتفاء بإعلاء صوت المهمشين. في الأولى صوت الأقباط والصعيد، والثانية المهاجر العربي للخارج، بينما في الثالثة صوت مهمشيّ المهمشين، المرأة والطفل القبطيين، لذا لا عجب أن تنتهي الرواية ببحثهما عن جنّة أرضية مؤقتة، ينعمان فيها بسلام مختلسٍ ما.