تجويع غزّة وليس جوعها
... وما بين الشاحنات والطائرات حكاية من حكايات التآمر على غزّة وأهلها، تتجاوز فكرة المساعدات الإنسانية وصولاً إلى محاولة شعبٍ أبيٍّ غير قابل للإذلال وإن مُوّت جوعاً.
منذ بداية "طوفان الأقصى"، وما تبعه من تداعيات عسكرية وانتهاكات صهيونية معلنة ومباشرة ووقحة لحقوق الإنسان في غزّة مع حصار اقتصادي خانق يعاني منه القطاع منذ سنوات طويلة تضاعف في شكله ومضمونه بعد الطوفان، كان الجميع يتوقّع ما ينتظر سكان غزّة من مجاعة، فمهما كانت موارد القطاع المحلية، ومهما كان مخزونه من الغذاء، لا بد أنه تناقص حتى انعدم مع استمرار العدوان والقصف والحصار.
والجوع الذي كان شبحا تتوقّعه غزّة وتنتظره وتحاول دفعه بوسائلها الخاصة وصمودها التاريخي وصبرها الأسطوري أصبح الآن واقعاً يومياً مريراً يعيشه القطاع بأكمله، وليس في الشمال وحسب، كما كان هو المتوقّع. وهو ما يجعلنا نتحدّث عن تجويع غزّة المقصود لذاته، وليس جوعها نتيجة حتمية لتداعيات العدوان. فغزّة تجوَّع مع سبق الإصرار والترصّد ليس من دولة الاحتلال، وهذا أمرٌ متوقّع وطبيعي، وحسب، بل من دول أخرى كان في وسعها ألا تكمل حلقة الخناق، وأن تسمح، وإنْ بتضحياتٍ ما، لغزّة أن تأكل وتشرب على الأقل.
نعم، غزّة تجوع، بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث رأينا في المقاطع المصّورة التي تأتينا من هناك أطفالا وقد ضعفوا حتى بان هزالهم، وعدد منهم مات جوعا، وكثيرون من رجالها ونسائها يتدافعون حول شاحنات المساعدات ومراكز توزيع الطعام حاملين بأيديهم أواني الطعام الصغيرة للتزوّد بوجبةٍ بالكاد تكفي لسدّ الرمق وتعين على مواصلة الحياة. هذا المشهد جديدٌ على الواقع الفلسطيني الذي لم يكن الجوع في أي يوم فيه، رغم الويلات التي عاشها الفلسطينيون، بهذا الشكل الواقعي الحرفي كما هو الآن.
غزّة بنسائها ورجالها الشمّ الأباة عزيزي النفوس، يقف كثيرون منهم الآن لطلب الوجبات اليومية من سيّارات المساعدات القليلة جدا التي تصل إلى غزّة عبر معبر رفح بشقّ الأنفس وباشتراطات تعجيزية، مضطرّين تحت وطأة جوع أطفالهم.
وهذا المشهد القاسي على نفوسنا قبل أن يكون على نفوس أهل غزّة الكرام يهون أمام مشهد كثيرين منهم وهم يركضون في كل اتجاهٍ لتلقّف المساعدات التي قرّرت بعض الدول العربية إنزالها على غزّة بالطائرات.
ولا أعرف لماذا هذا المشهد؟ وكيف لتلك الدول أن تستطيع تطيير طائراتها بشكل علني وتخترق المجال الجوي الذي تسيطر عليه قوات الاحتلال وصولا إلى سماء غزّة المحاصرة من كل الاتجاهات ولا تستطيع، في الوقت نفسه، أن تعبر بتلك المساعدات من خلال المعابر البرية؟ وكيف تسمح قوات الاحتلال بوصول المساعدات عبر الطائرات جوّا ولا تسمح بوصولها عبر الشاحنات... ما دام الهدف واحد والسيطرة واحدة وسياسة الاحتلال واحدة؟ وخصوصاً أن المساعدات التي يمكن أن تحملها طائرة واحدة لا تكاد تساوي في الحجم سوى عُشْر المساعدات التي يمكن أن تصل عبر الشاحنة، علاوة على دقّة وصول الشاحنات إلى الهدف وتوزيع الغذاء على أهالي غزّة بطريقة كريمة مقارنة بالطريقة العشوائية عبر الجو، والتي بلغت من عشوائيتها أن بعض المساعدات سقطت في البحر، ما اضطر الناس للسباحة بحثا عنها وقد تلف كثير منها بسبب مياه البحر، بل سقطت بعض تلك المساعدات على مدن فلسطينية محتلة من مدن الداخل، أي أنها ذهبت إلى الصهاينة وليس للفلسطينيين، في مقارنة موجعة ومفارقة مؤلمة للنفس ما بين المساعدات التي وصلت إلى غزّة بالشاحنات والأخرى التي وصلت إليها بالطائرات، وتجعلنا نفكّر بالهدف الحقيقي لمثل هذه الإنزالات التي لم تسمن غزّة ولم تُغنها من جوع!