تحالف الحوثي وحزب المؤتمر: الصراع وسياسة الإزاحة
يُعاد، من حين إلى آخر، ووفقاً للتحدّيات الداخلية التي تواجهها سلطات الحرب تعيينها مظاهر القوة لتثبيت هيمنتها، ومع اختلاف هذه الأدوات، من سلطة يمنية إلى أخرى، وأيضا اختلاف المنافس السياسي الذي تستهدفه، فإن جماعة الحوثي، وكسلطة أمر واقع، تسيّج مظاهر تعزيز قوتها بإزاحة حليفها، حزب المؤتمر الشعبي العام من السلطة، إذ إن هذا التحالف، وإنْ وسمته طبيعة تحالفات الحرب في اليمن، من افتقارها المبادئ التوافقية، سواء على مستوى المرجعيات أو الشراكة في السلطة، فإن ديناميكيات التنازع بين الطرفين تتعدّى السياسيّ الآني في شكل مظلة التحالف إلى المستقبل، ولذلك تتجه الجماعة الى مضاعفة إجراءات تقييد حليفها من تغيير الحكومة إلى مضاعفة القمع، فيما يستثمر حزب المؤتمر، مركزه حزب سلطة سابقا، والأهم توتّرات مجتمعاتٍ مقموعةٍ ومصادرة الحقوق، مقابل طغيان سلطة الطائفة وفسادها.
أسّست نتائج جولة الصراع الدامي في ديسمبر/ كانون الأول 2017 لمعادلة سياسية واجتماعية هشّة، ومن ثم مختلّة بين الحليفيْن، إذ إن جماعة الحوثي، وإن انتصرت على خصمها، المؤتمر الشعبي العام، بما في ذلك قتلها الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، فإن ذلك لم يضمن لها، كما يبدو، تثبيت مركزها سلطة مستقرّة في شمال اليمن، إذ ظلت النطاقات الجغرافية التي تمثل ثقل صالح، ومن ثم "المؤتمر" مصدر تهديد دائم لها، على الرغم من استقطابها بعض الواجهات الاجتماعية المؤثرة، كما أن تشظّي القوى الاجتماعية بين معسكرات الحرب، وتغير شبكة ولاءاتها جعلها ساحة استقطاب فاعلة، ولكنها متغيّرة، بحيث غذّى هذا الواقع مجالاتٍ متنافسة، وأيضا متبدّلة من القوة بين الطرفين، ففي حين لجأت الجماعة لتجاوز هذه الإعاقات، بتثبيت سلطتها في العاصمة صنعاء، سواء بإنشاء مجالسها الخاصة، أو هيكلة مؤسّسات الدولة من إحلال عناصرها، وازاحة كوادر الدولة وبشكل خاص المنتمين لحزب المؤتمر، وتحديدا في القطاع الأمني والعسكري، إلى جانب كياناتها الموازية، فإن تجريف بنية السلطة التحالفية ظل أداةً استراتيجيةً للجماعة لثبيت مركزها، فبالتوازي مع تحييدها ممثلي المؤتمر في سلطة المجلس السياسي الأعلى، فإنها عطّلت حكومة عبد العزيز بن حبتور التي تم تشكيلها إبّان تحالفهما في عام 2016، إلى جانب تقييد فاعلية المؤتمر سياسيا واجتماعيا، بما في ذلك استبعاده من المشاركة أو التمثيل في جولات المشاورات السياسية مع خصومها لوقف الحرب في اليمن، إلا أن الجماعة، وربما أكثر من حزب المؤتمر الشعبي العام، ظلّت حريصة على بقاء مستوياتٍ من شكلية التحالف مع خصمها، وذلك لاستخدامه مظلّة سياسية تحقّق لها نوعا من الشراكة الظاهرية مع القوى السياسية في المناطق الخاضعة لها، وأيضا مظلّة لحمايتها من خلال كسر حالة الأحادية التي تميّز إدارتها للسلطة، ومن ثم تمكينها من الهيمنة على شمال متنوّع اجتماعيا وسياسيا ومذهبيا، فضلا عن تحميل "المؤتمر" مسؤولية فشلها بوصفها سلطة أمر واقع، وذلك بتصريف الضغوط الشعبية التي تواجهها نحو حليفها، إلا أنه، ورغم نجاحها في توظيف التحالف لصالحها، فإنها ظلّت تدير علاقتها بحزب المؤتمر لا من موقع طرف منتصر، بل بوصفها مصدر تهديد حالي ومستقبلي، فإضافة إلى مخاوفها من استئنافه دورة انتقام لقتلها الرئيس صالح، تماما كما أدّت حروب صعدة الست إلى انتقامها من شخص صالح، فإن امتلاك "المؤتمر"، رغم سياسة التقييد لشبكة ولاءات عميقة وتحالفات متعدّدة المستويات في النطاقات القبلية، وإن كانت متشظّية أو كامنة، فضلا عن امتداده الجغرافي جعلها سلطة غير متجذّرة مجتمعيا تفتقر للحماية من الهزّات الاجتماعية المحتملة التي قد يستثمرها خصمها، إلى جانب إدراكها أن القاعدة الجماهيرية للمؤتمر استطاعت اختراق سلطتها، سواء في أطرها السياسية أو الإدارية، وذلك لنفوذها المجتمعي ومرونتها السياسية، فضلا عن القوى الصامتة التي هي خارج سلطة الجماعة، والتي تمثّل قوة استقطابٍ سائلةٍ قد ترجّح الكفّة لصالح "المؤتمر"، وذلك لعجزها عن استثمارها، وفي حين واصلت الجماعة سياسة ضبط ومراقبة وإخضاع شريكها، فإن ضغوطا متعدّدة دفعتها، أخيرا، إلى تغيير استراتيجيتها التقليدية.
تأتي القوة الناعمة لحزب المؤتمر من امتلاكه أوراق قوّة تراكم رصيده قوّة سياسية متنامية في المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي
في إطار سياستها الممنهجة لتثبيت هيمنتها تلجأ جماعة الحوثي إلى استراتيجية ضمان تماسك الجبهة الداخلية، والتي تعني، في كل الحالات، تصعيد إجراءات القمع وقبلها إزاحة القوى الممثلة في سلطتها، وذلك بربط مخاوفها من حليفها، والناشئة عن أزمتها في إدارة تحالفاتها مع نتائج اختلالات أدائها، وذلك بتحميل أي توتراتٍ اجتماعية بعدو متربّص بسلطتها، إذ إن المرحلة الأولى من التغيير الجذري التي أعلنها زعيم جماعة الحوثي في نهاية الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) هدف منها، إلى جانب تثبيت سلطتها، التهرّب من مسؤوليتها حيال تردّي الأوضاع الاقتصادية، ومن ثم امتصاص النقمة الشعبية، فضلا عن تحجيم خصمها سياسيا واجتماعيا أيضا. وذلك باتجاهين، تعزيز قبضتها على السلطة القضائية، إذ إنه، وعلى الرغم من إحلالها عناصر من خرّيجي معاهد القضاء في المحاكم، بما في ذلك تفعيل دور الأمناء الشرعيين، فضلا عن الاغتيالات التي طاولت عدة قضاة، والتي غيّرت تركيبة المؤسّسة القضائية، فإن ذلك لم يضمن للجماعة هيمنتها على قراراتها. لذلك، شكّل تفكيك ما تبقّى من المؤسّسة القضائية أولوية لها في هذه المرحلة، التوجه الثاني، تغيير السلطة التنفيذية، وذلك بإقالة حكومة بن حبتور، والذي هدفت منه الجماعة، إضافة إلى تحميل "المؤتمر" فشل إدارتها مؤسّسات الدولة، إلى تقليم خصمها، والأهم طيّ مرحلة سياسية من تحالفها مع "المؤتمر"، أي مرحلة الرئيس صالح، برموزها السياسية، ومن ثم تدشين مرحلة جديدة من حكمها. وفي مقابل التوجهين المعلنين من الجماعة في هذه المرحلة، عمدت الأخيرة إلى تعزيز قبضتها الأمنية، وتدشين حملة اعتقالاتٍ واسعةٍ، طاولت أكثر من ألف مواطن في صنعاء من المحتفلين بالعيد الوطني، إلى جانب اعتقال كوادر تربوية على خلفية مطالبتهم بدفع رواتب المعلمين، منهم رئيس نادي المعلّمين في صنعاء، أبو زيد عبد القوي الكميم، فضلا عن اعتقال محسوبين عليها، ومن ثم وإلى جانب إرهاب المجتمع توجيه رسالة إلى حليفها المؤتمر الذي تحمّله مسؤولية تصاعد حدّة الغضب الشعبي جرّاء وقف دفع رواتب الموظفين، لجأت الجماعة، في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، إلى تحريك جريمة استهداف التحالف العربي القاعة الكبرى قضائيا، وذلك بعد ثماني سنوات من الجريمة، في محاولة لتسييسها وتوظيفها في سياق الضغط على خصمها، إذ تشكّل جريمة استهداف الصالة الكبرى أحد الأسباب التي أدّت إلى انفجار الصراع بين الحليفين، وأيضا حسم الجماعة للصراع، فعلى الرغم من اعتراف التحالف العربي بمسؤوليّته حيال الجريمة التي راح ضحيّتها ما بين ألف قتيل وجريح، فإن "المؤتمر" الذي فقد معظم قياداته العسكرية والسياسية من الصف الأول وقيادات الدولة، ظلّ يشير بالاتهام إلى قيادات في الجماعة، بوصفها طرفا متواطئا مع التحالف، من نجاة قياداتها التي كانت حاضرة في القاعة إلى اعتقال قواتٍ أمنية تتّبعها عدة جرحى من مشائخ "المؤتمر" وإخفائهم سنوات، منهم الشيخ حسين الهادي، ومع أن الجماعة قد تلجأ إلى تكتيكات عديدة لإدارة علاقتها بحليفها، من الترهيب ومن ثم الضغط إلى إضفاء نوع من التمثيل الشكلي في حكومتها المقبلة، وذلك باستقطاب واجهات ثانوية من قيادات الصفّ الثاني في "المؤتمر"، فإن معادلة الإزاحة والإخضاع لتطويع خصمها لا تعني أنه فقد قدرته على اللعب، وأيضا المناورة.
جماعة الحوثي، وإن انتصرت على خصمها، المؤتمر الشعبي العام، بما في ذلك قتلها الرئيس السابق، صالح، فذلك لم يضمن لها، كما يبدو، تثبيت مركزها سلطة مستقرّة في شمال اليمن
تتأتّى القوة الناعمة لحزب المؤتمر من امتلاكه أوراق قوّة تراكم رصيده قوّة سياسية متنامية في المناطق الخاضعة لجماعة الحوثي، فإلى جانب تحرّكه، وإن في الظل في مناطق الثقل الشعبي للحزب تاريخياً من صنعاء إلى غيرها من المدن اليمنية في شمال الشمال، والتي تعني أنه يتّكئ على مركز إسناد مجتمعي، وفي مناطق ثقله التاريخي، ومن ثم ترجّح كفته سياسيا على الجماعة، كما أن عدم ارتهانه للقوى الإقليمية المتدخّلة (مؤتمر صنعاء) يفرضه كقوة سياسية مستقلة تعني في ظروف الاستقطابات والولاءات العابرة للقوى السياسية المحلية تمتعه بفرص أن يتحول الى تيار ثالث خارج تيارات معسكرات الحرب وسلطاتها، كما أن حالة الفراغ السياسي والاجتماعي الناشئة عن حضر الجماعة الأحزاب السياسية في المناطق الخاضعة لها فرضت مؤتمر صنعاء قوة وحيدة ومركزية في مشهد سياسي أحادي ومسدود الأفق، تهيمن عليه سلطة الجماعة، كما أن سردية قتلها صالح، وأيضا طريقة انتقامها من زعامات "المؤتمر" غذّت كل هذه السنوات. وبالنظر إلى ممارساتها تعاطفا مع مؤتمر صنعاء، إضافة، وهو الأهم، فإن تدمير الجماعة الدولة، واهانة رموزها السيادية، وكذلك الصبغة الطائفية لسلطتها وإشكال الإكراهات والإخضاع للمجتمعات المحلية في مناطقها، صدّرت "مؤتمر صنعاء" قوة وطنية ترمز إلى كيان الدولة اليمنية وللنظام الجمهوري المُستباح، بحيث أصبح بديلا سياسيا، يعوّل عليه المواطنون في تغيير المعادلة، وأيضا مظلّة سياسية، يحتمون بها يتيح لهم فضاء لمقاومة عسف الجماعة، ومع أن مؤتمر صنعاء يراهن على هذه الأوراق في إدارة علاقته بحليفه، إلا أن حصره في معادلة البديل السياسي، وفي هذا التوقيت، قد تفرض عليه أعباء تقيّده من الفاعلية، إلى جانب مخاطر تعرّضه للاستهداف، إذ إن استراتيجية الكمون السياسي والتحرّك في الهامش التي اتّبعها مؤتمر صنعاء، خارج سلطة الجماعة، لكن داخلها نوعا ما، مكّنته من حماية نفسه، كما أنها أكسبته مرونةً في إدارة علاقته بالمجتمع من استيعاب الواجهات الاجتماعية التي استبعدتها الجماعة من السلطة إلى استثمار ما تُنتجه من إكراهاتٍ وقمع في المجتمع واستثمارها، وذلك بتحويل نفسِه إلى قوّة معارضة، وهو ما ضاعف من شعبية "المؤتمر"، أخيرا، الذي أصبح ينظر له حاملا مطلبيا ومدنيا لتطلعات المواطنين، إلا أن دفعه إلى اتخاذ موقف مناوئ للجماعة يعني كلفة باهظة، ليس على "المؤتمر" فقط، بل على مجمل القوى وعلى المجتمع في المناطق الخاضعة لها، أي إجهاض حامل سياسي مستقبلي محتمل. ومن ثم، فإن مؤتمر صنعاء الذي يواجه ضغوطا وتحدّيات في علاقته بالجماعة أمام خيارات عديدة، أما أن يترك السفينة تغرق وحدها مقابل استمراره في تبنّي سياسة التوازن، لتحسين موقعه بوصفها قوة إزاحة، وبالتالي، قبول أي شكل تفرضه الجماعة من التحالف أو أن ينساق مع حماسة المزاج الشعبي لتصدير نفسه للواجهة، والتي تعني، في كل الحالات، انتحارا سياسيا.