تحتها صلب كأنه عنادنا: مرسي ناصريًا
بالإعلان عن تفكيك شركة الحديد والصلب المصرية وتصفيتها، يكون عبد الفتاح السيسي قد أطلق الرصاصة الأخيرة على جمال عبد الناصر، وهدم الجدار الأخير من كل ما بنته مصر في الخمسينيات والستينيات.
هذه حقيقة يدركها العامل والفلاح والمثقف، ولن يحجبها الهتاف المزيف للسيسي، والصادر من حناجر أبناء عبد الناصر، والناصريين المحترفين الذين يمارسون نوعًا من النخاسة على التاريخ، بادعاء أن السيسي وعبد الناصر شخصية واحدة وتوجه واحد.
ما كان مستبعدًا في كوابيس المصريين، زمن حسني مبارك، صار حقائق تمشي على الأرض مع عبد الفتاح السيسي .. فهل تغيرت مصر إلى هذا الحد؟ ظني أن مصر لم تتغير، لكن المصريين تغيروا، حتى بات بإمكان أي مجموعة من القراصنة إقناعهم بأنهم سلطة وطنية تحمي الوطن، وتحافظ على حياة المواطنين، بينما هم في الواقع يمصّون دم الوطن والمواطن، ويعبثون بالخرائط السياسية والإنسانية، ويحولون مصر من "تاج العلاء في مفرق الشرق" إلى تابع تافه وصغير "على هامش العلا"، هناك حيث قرّر المتخاصمون أن يتصالحوا، فركبت مصر موجة المصالحة، تمامًا كما سارعت إلى ركوب موجة الخصام، قبل ثلاث سنوات، بالتبعية لمن قرّروا الخصام.
دولة تعادي نفسها وتبصق على تاريخها كل يوم، وتقتل كل ما هو مضيء فيها، فتقطع أشجارها وتدمر قلاعها وتبيع أرضها وقرارها، وتكره الكرامة، وتتفنن في إهانة ثورة الكرامة، وتصغر من شأنها وتحطّ من قيمتها، فمن الطبيعي أن يستصغرها الناس، ويسخر من تصاغرها الصغار.
بالتزامن مع الإعلان عن تصفية مجمع الحديد والصلب في حلوان، أعرق القلاع الصناعية في الشرق الأوسط، تنطلق حملة حكومية للقضاء على أشجار الكافور المعمّرة التي تزين حزام النيل بمنطقة العجوزة، وفي اليوم نفسه يفتتح المجلس التشريعي، برئاسة قاضٍ، أبرز إنجاز له أنه الشخص الذي أبطل كل أحكام مجلس الدولة والقضاء المستعجل الرافضة لقرار التنازل عن قطعتين من أرض مصر (تيران وصنافير) لصالح السعودية، ولإرضاء الكيان الصهيوني.
في هذه الأجواء، وعن عمد، تتم إهانة فكرة الثورة في أيام عيدها، وسحق ذاكرة كل من يفكر في استعادة الحلم بالحرية والكرامة الوطنية والإنسانية، والعدل والعيش الكريم، تمامًا كما يتم تفكيك شركة الحديد والصلب، وبيعها وتشريد عمالها، لا باعتبارها مؤسسةً صناعيةً ضخمةً فقط، وإنما قبل ذلك بوصفها صفحاتٍ مضيئةً من تاريخ مصر الحديث، يملأ نورها كل جوانب الحياة، من الانتصار في الحروب، إلى الرقي في الغناء، مرورًا بتحقيق حالةٍ حقيقيةٍ من السلام الاجتماعي، تذوب فيها الفوارق الطبقية بين المهندس البارع والعامل الماهر والفلاح المكافح.
في معركة أكتوبر 1973 كانت شركة الحديد والصلب بمثابة فرقة عسكرية تضم أكثر من 27 ألفًا من المحاربين البواسل، يعملون ليلًا ونهارًا لتوفير كل ما هو مطلوب لمصنعي 100 و200 الحربيين لتزويد جبهة القتال بالمدرّعات اللازمة للمعارك ضد العدو الصهيوني، وفي الوقت ذاته ينتجون ما تحتاجه الأسواق الداخلية من أجهزة منزلية ومعدّات، عبر المصانع الحربية.
لم تكن "الحديد والصلب" مجرد شركة منتجة، بل كانت نشيدًا وأغنية وإرادة وطنية، و صورة حقيقية لمصر، رسمها العبقري صلاح جاهين بكلماته، والرائع كمال الطويل بألحانه، وجسدها عبد الحليم بصوته صادحًا:
على مدد الشوف مادنة ومادنة
دى لصـــلاتنـا ودى لجـــهادنـا
مدخــنة قايدة قلوب حُسَّــادنا
تحـــتها صــــلب كأنه عــــنادنـا
وقــدامه من أغــــلى ولادنـــــا
عــــــــامل ومهــندس عـــرقــان
شــــــبان والشــــبان فى بلدنـا
فى الصــورة فى أهــــم مكـان
الصورة ذاتها، بمضامينها ومعانيها، عبر عنها الرئيس الشهيد محمد مرسي في العام 2013، وقبل الانقلاب عليه بأقل من شهرين، حين اختار أن يحتفل بعيد العمال من مقر مجمع الحديد والصلب بمدينة حلوان، ويقول "هذا هو المكان الذي نحبه كلنا، ونريده أن يكون رمزا للإنتاج والعرق والجهد ولكل مصانع وعمال مصر"، ويعلن بملء الفم إنه هنا لاستكمال ما بدأه جمال عبد الناصر، ويشدّد على أنه لا بيع للقطاع العام، ولا استغناء عن العمالة بعد الآن.
بهذا المعنى، كانت الشركة صرحًا عاليًا يرفع منه المصريون آذان الحرية، وينادون حي على الانتصار، ولم يكن غريبًا أن تجد ميدان التحرير في ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 ممتلئًا بعمال المصانع والشركات، يهتفون للحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، مثلما كانوا في انتفاضة يناير 1977 يهتفون ضد التبعية والانحراف نحو انفتاحٍ اقتصاديٍّ زائف، كان الخطوة الأولى على طريق تصغير مصر، حتى صارت تمارس النزق في الخصام وفي الصلح على النحو المخجل الذي تراها عليه الآن.
أتذكّر قائمة الصحافيين والكتاب المنسيين في زنازين مصر السيسية الآن، فتأتيني وجوه عامر عبد المنعم وهشام فؤاد ومجدي حسين وهيثم محمدين، وعشرات مثلهم تمتلئ أرشيفاتهم بكتابات عديدة ضد اغتيال صروح مصر الصناعية، منذ غزت الخصخصة مصر، فعرفتُ لماذا هؤلاء في السجون حتى الآن.