تحدّيات السياسة السعودية في إقليم متغير
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
في خضم تداعيات الأزمة الأوكرانية وتفاعلاتها المعقّدة، وما يشهده إقليم الشرق الأوسط من تحولات في سياسات الفاعلين الإقليميين والدوليين، يُلاحظ حراك سعوديّ نشط، مدفوع بثلاثة متغيّرات أساسية؛ أولها محاولة الرياض توظيف تداعيات الأزمة الأوكرانية، وزيادة الطلب على دورها ونفطها وقدراتها المالية والاستثمارية والإغاثية، وتحوّلها مركزًا دبلوماسيًّا إقليميًّا، عبر استضافتها القمّة العربية الأميركية (16/7/2022)، وكذا القمّة العربية الصينية (9/12/2022)، ثم زيارة وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، أوكرانيا، والتوقيع على مذكرة تفاهم بين البلدين، بقيمة تصل إلى 400 مليون دولار، واستعداد الرياض للوساطة في الأزمة الأوكرانية المعقّدة. وثانيها رغبة السعودية في استثمار تداعيات الاتفاق الصيني السعودي الإيراني (10/3/2023)، في تعزيز حراكها الدبلوماسي في عدة ملفات عربية/ إقليمية مهمّة، خصوصًا اليمن وسورية وفلسطين، على نحوٍ يكشف سعي الرياض إلى تعزيز خطوات "الانفتاح المحسوب/ التدريجي" على محيطها الإقليمي، خصوصًا إيران وتركيا. ويتعلق المتغير الثالث باستعداد السعودية لاستضافة القمّة العربية في 19 مايو/ أيار المقبل.
وعلى الرغم من وجود فرصةٍ معقولةٍ أمام السعودية، فإنها تحتاج معالجة أربعة تحدّيات جوهرية، بغية تحسين مكانتها الإقليمية، وزيادة قدراتها التساومية مع القوى الإقليمية والدولية؛ أولها تنفيذ خطة استراتيجية متماسكة (عبر تعاون مكثّف مع سلطنة عُمان وقطر والكويت والجزائر) للقيام بتحركاتٍ ومبادراتٍ أوسع، خليجيًّا وعربيًّا وإقليميًّا، بغية وضع السياسة الخارجية السعودية في سياق خليجي/ عربي "متماسك"، بما يسمح بتحقيق ثلاثة أهداف؛ أولها حلحلة الملف اليمني، وتخفيف أعباء الصراع مع جماعة الحوثي، وثانيها "إعادة التموضع" السعودي في الملف السوري على نحوٍ يحاول إعادة تنشيط الحضور العربي هناك، بالتزامن مع تخفيض/ ضبط الصراع بالوكالة مع إيران. وثالثها جذب العراق بصورةٍ أكبر نحو "عمقه العربي"، خصوصًا مصر والأردن، وكذا حرص السعودية على إشراك العراق في القمم الدولية العربية (مثل القمّة العربية الأميركية في يوليو/ تموز الماضي، والقمّة العربية الصينية ديسمبر/ كانون الأول الماضي)، إضافة إلى الترحيب بتقارب حكومة محمد شيّاع السوداني مع كل من فرنسا وألمانيا، ما يعكس رغبةً سعودية أصيلة في استعادة العراق علاقاته الخارجية وتنويعها تمهيدًا لتقليص الهيمنة الإيرانية عليه، فضلًا عن تنشيط السعودية علاقاتها السياسية والاقتصادية مع العراق، كما كشفته زيارة وزير الخارجية السعودي إلى بغداد 2 فبراير/ شباط الماضي.
على الرياض صياغة موقف سعودي/ عربي جديد من تطورات الصراع العربي الإسرائيلي
واستطرادًا، تحتاج السعودية إلى تمييز سياساتها عن الإمارات، بصورة أكبر، خصوصًا في الملف اليمني؛ إذ تبرُز أهمية عودة الرياض إلى سياسة "احتواء اليمن"، وربما وصولًا إلى "إدماجه" في مجلس التعاون الخليجي؛ فبعد سنواتٍ من استخدام الأداة العسكرية في "عاصفة الحزم"، واللجوء إلى فرض الحصار البحري والبرّي والجوي، لإظهار القدرة والحزم السعودييْن، يجب أن تعود المملكة إلى استخدام الأدوات التوفيقية/ التعاونية في تنفيذ سياساتها الخارجية، والعمل على المحافظة على المجتمع اليمني من التفكّك والصراع الأهلي، بالتوازي مع الحفاظ على البنية الجيوسياسية للدولة اليمنية والتصدّي لسياسات أية أطرافٍ داخلية أو خارجية تريد تحويل اليمن "ساحة صراع إقليمي مفتوح"، ذلك أن أكبر المتضرّرين من ذلك هو السعودية ودول الخليج عمومًا، التي ستعاني الأمرّيْن في حال تحقق هذا السيناريو التفكيكي في اليمن، واحتمال انتشار عدواه في المنطقة، كما حدث بعد الاحتلال الأميركي للعراق قبل 20 عاما، وتفكيك بنية الدولة العراقية وإضعاف مجتمعه وتجويع شعبه.
يتعلق التحدي الثاني أمام السعودية بضرورة صياغة موقف سعودي/عربي جديد من تطورات الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصًا بعد تكرار تصعيد سلطات الاحتلال ممارساتها تجاه المسجد الأقصى في شهر رمضان المبارك، في استفزاز واضح لمشاعر العرب والمسلمين، ناهيك بتقييد وصول المسيحيين إلى كنيسة القيامة في القدس للاحتفال بسبت النّور. وفي هذا الإطار، ثمة حدّان للحركة؛ أدناهما أن تبادر الرياض إلى تعزيز تعاونها مع عدة دول عربية (سيما الجزائر والكويت وقطر، بسبب معارضتها التطبييع مع إسرائيل)، لإعادة بناء المواقف العربية حول قضية فلسطين/ القدس، وتجميد مسارات التطبيع مع دولة الاحتلال، خصوصًا مسار اتفاقات أبراهام منذ عام 2020؛ إذ يحتاج العرب إلى تدشين تحالفاتٍ دبلوماسية رسمية، لدعم قضية فلسطين، على صعيدين؛ أحدهما إقليمي، عبر التقارب مع العمق الآسيوي والأفريقي، والاستفادة من مواقف إيران وتركيا وباكستان وماليزيا وإندونيسيا ونيجيريا والسنغال وجنوب أفريقيا.. إلخ. والآخر بناء تحالفات دبلوماسية على الصعيد الدولي، (بالتنسيق مع الفاتيكان وروسيا والصين ومواقف أوروبية تنتقد الانتهاكات الإسرائيلية).
تحتاج السعودية إلى تمييز سياساتها عن الإمارات، بصورة أكبر، خصوصاً في الملف اليمني؛ إذ تبرُز أهمية عودة الرياض إلى سياسة "احتواء اليمن"
أما الحدّ الأقصى فهو أن تدرس السعودية قرار سحب "المبادرة العربية للسلام"، سيما أنها لم تعد ذات صلة بتطوّرات الصراع على الأرض، فضلًا عن أن بقاءها على الطاولة (وعدم اتخاذ أية مواقف عربية من سلوك التصعيد الإسرائيلي الممنهج، الذي يصر على انتهاك تفاهمات العقبة وشرم الشيخ)، يؤكّد حالة العجز الرسمي العربي، واستمرار انغلاق الخيارات العربية، ما يعفي إسرائيل من أية التزاماتٍ ويشجّع حكومة بنيامين نتنياهو على المضي في سياساتها الفاشية والعنصرية. وغنيّ عن البيان أن تقصير العرب في واجباتهم تجاه دعم القدس والمقدسيين وإسناد قوى المقاومة الفلسطينية، واستمرار خطاب "السلام خيار استراتيجي عربي"، والرهان البائس على خيار التسوية و"مبادرة السلام العربية"، كلها خطوات تُضعف "الموقف العربي الرسمي"، وتفتح الباب واسعًا لتوظيفات القوى الإقليمية والدولية كي تتحكّم أكثر في مصير القضايا العربية الاستراتيجية، وعلى رأسها قضية فلسطين/ القدس.
يتعلق التحدي الثالث بأهمية تطوير تفاهمات "الحدّ الأدنى" العربية في القضايا الخلافية، التي تتسبّب في صراعات عربية عربية، من قبيل إعادة التطبيع مع نظام بشار الأسد؛ فالملاحظ أن الخطاب السعودي تجاه سورية شهد تحوّلات نحو التقارب مع نظام الأسد، على الرغم من عرقلة السعودية (إضافة إلى مصر وقطر)، جهود بعض الدول العربية لإعادة سورية إلى جامعة الدول العربية في القمّة العربية في الجزائر، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. كما تطوّرت العلاقات الأمنية بين الرياض ودمشق إثر زيارة رئيس إدارة المخابرات العامة (أمن الدولة) اللواء حسام لوقا، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي السعودية. بيد أن اللافت هو مسارعة السعودية بعد زلزال 6/2/2023، (الذي ضرب تركيا وسورية)، إلى تقديم مساعداتٍ شملت جهتي مناطق النظام السوري، ومناطق المعارضة.
أما سياسيًّا، فقد زار وزير الخارجية السوري فيصل المقداد السعودية، قبل أن يلتقي وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، بشار الأسد في دمشق (18/4/2023)، في أرفع زيارة رسمية سعودية لسورية منذ اندلاع الثورة قبل 12 عامًا، ما يطرح سؤالًا عن أسباب تغير السلوك السعودي في هذا الصدد، وتغييب الجزائر عن الاجتماع التشاوري لوزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق في جدّة (14/4/2023)، الذي استهدف مناقشة عودة النظام السوري إلى الجامعة، ما قد يعني أن السعودية تلجأ إلى إيجاد آليات فرعية على حساب جامعة الدول العربية، ربما رغبة في تغييب الجزائر.
تحتاج الرياض بلورة "مشروع سياسي إقليمي"، يستند إلى رؤية استراتيجية مخطّطة، بما يساعد على القيام بدور إقليمي حقيقي
والمؤكّد أنه ليس بوسع السعودية أن تؤمّن نفسها من تداعيات الاضطرابات المتزايدة في محيطها العربي (مثل المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي بدأت في 15/4/2023)، وأن حلّ هذه الأزمات يقتضي تعاونًا مع الجزائر ومصر، مهما كان حجم الخلافات السعودية معهما، والعمل على تطوير مقاربات عربية "استباقية" للتدخّل في الأزمات العربية قبل تفاقمها، وتنشيط دور مراكز الأبحاث والجامعات العربية في البحث عن صيغ وحلول ابتكارية تستند إلى رؤية استراتيجية للمصالح العربية العليا، والتوقف عن سلوك تبريد/ تهدئة المشكلات، أو معالجة سطحها من دون جوهرها، ما يؤدّي إلى انفجارها مجدّدًا، بمجرد توفر البيئة اللازمة لذلك.
يتعلق التحدّي الرابع بعدم كفاية البعد الاقتصادي/ الاستثماري لإعادة بناء النفوذ السعودي في العالمين العربي والإسلامي؛ إذ تحتاج الرياض بلورة "مشروع سياسي إقليمي"، يستند إلى رؤية استراتيجية مخطّطة، بما يساعد على القيام بدور إقليمي حقيقي، في ظل "مرحلة انتقالية" حبلى بالتحدّيات وزاخرة بالفرص أيضًا، مع إدراك أن جزءًا أساسيًّا من قدرة السعودية على التأثير الإقليمي، لا يمكن حدوثه من دون مباشرة عملية إصلاح سياسي داخلي تُطلق الطاقات البشرية والمجتمعية، وتسمح للسعودية (والعرب عمومًا) بممارسة دور فاعل في رسم مستقبل إقليم الشرق الأوسط، بدلًا من البقاء على هوامشه.
يبقى القول إن نقطة البداية في معالجة هذه التحدّيات الأربعة، تكمن في تصويب السياسات الداخلية، بما يسمح بإعادة بناء الإنسان السعودي/ العربي، وإطلاق حريته وإبداعه وتمكينه من "حقوق المواطنة الكاملة"، وامتلاك القدرات العلمية/ التصنيعية، وتجاوز منطق السياسات الجزئية والتكتيكات الموسمية/ الآنية، والتسليم باستحالة منع مسارات التغيير العربي، وأهمية التعامل الحصيف مع تحدّيات المرحلة الراهنة التي تشير إلى تحوّلات نوعية في النظامين، العالمي والإقليمي، لكنها تنتظر من يفهمها ويأخُذها في حسبانه، سواء في حراكه الثوري أم جهده الإصلاحي.
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.