تحصين الوضع الفلسطيني ضد الصدامات الداخلية العنيفة
استطاع الخطر الداهم الذي تعرّض له الفلسطينيون، طوال تاريخهم الحديث، توحيدهم وتهميش خلافاتهم وصراعاتهم الداخلية. وشكلت المخاطر التي تعرّضوا لها جرّاء عدوانية المشروع الصهيوني الذي اقتلعهم من أرضهم، وكسر بنيتهم الاجتماعية، وألغى وجودهم الوطني عن خريطة المنطقة، وأدخلهم تجربة الشتات، وكانت بمثابة النار التي صُنع منها فخّار التجربة الوطنية الفلسطينية الحديثة. كما ظهر الفلسطينيون، في لحظات من تاريخهم، وكأنهم عصيون على الاختراق، محصّنين ضد الصدامات والصراعات الداخلية الواسعة. وقد ساهمت أسطرة التجربة الفلسطينية عربياً وفلسطينياً في تعزيز هذه النظرة التي كادت تقنع الفلسطينيين والعرب بأنّ الشعب الفلسطيني مختلف عن الشعوب العربية جوهرياً. وفي أحيان كثيرة، حمل تعبير "الخصوصية الفلسطينية" عند استخدامها من الفلسطينيين ما يمكن تسميتها "عنصرية مقلوبة" رداً على عنصرية مزدوجة مورست ضدهم، من المشروع الصهيوني من جهة، ومن الدول المضيفة من جهة أخرى، وكانت "العنصرية الفلسطينية" إذا صح التعبير، تنطلق من تفوّق الفلسطينيين على العرب في كلّ شيء تقريباً، على الرغم من الظروف الاستثنائية التي يعيشونها.
إذا كان من الصحيح أنّ الصدامات الفلسطينية ـ الفلسطينية قد وصلت، في حالاتٍ كثيرة، إلى الصدام المسلّح والدامي، إلا أنّها لم تكن قادرةً على الوصول إلى الحرب الأهلية
كانت العلاقات الداخلية الفلسطينية ـ الفلسطينية الكاملة ممتنعةً عن الصدامات المسلحة ما قبل تجربة "أوسلو" فقد كانت هذه العلاقات تمر عبر سيطرة طرف آخر، سواء كان الاحتلال أو الدول المضيفة. وكانت هذه الصيغة التي عاشها الفلسطينيون، بحكم تجربة الشتات، تُخفي، إلى حدّ كبير، الصراعات الداخلية من جانب، ولا تمنح التجمعات الفلسطينية أدوات هذا الصراع، طالما أنّهم محكومون بجغرافيا سياسية لا تعود إليهم، سواء سيطرت عليهم أم سيطروا عليها. وفي الحالتين، لم تكن أدوات الصراع متوفرة، لا بمعنى المصالح التي يمكن تحقيقها، ولا بوجود جغرافيا يمكن حسم هذا الصراع من خلال احتلال مواقعها من طرف، وطرد الطرف الآخر. بل على العكس، في الحالات التي جرى الصراع فيها على الجغرافيا، مثلما حصل في انقسام حركة "فتح" في العام 1983، كان كسب الجغرافيا في البقاع اللبناني، وطرابلس اللبنانية، خسارة في الإطار الوطني، وليس تعزيزاً لمكانة القوى التي أنجزت الانتصارات الجغرافية، لأنّ منظمة التحرير بوصفها وطناً معنوياً للفلسطينيين ما كان يمكن حسم الصراع عليها على جغرافيا الآخرين. وإذا كان من الصحيح أنّ الصدامات الفلسطينية ـ الفلسطينية قد وصلت، في حالاتٍ كثيرة، إلى الصدام المسلّح والدامي، إلا أنّها لم تكن قادرةً على الوصول إلى الحرب الأهلية، لسبب موضوعي وبسيط، وهو أنّها كانت صراعاتٍ على أرض الآخرين، وليست على الأرض الفلسطينية، وكان فيها من العوامل الخارجية الإقليمية أضعاف ما فيها من عوامل داخلية فلسطينية.
استعصى الحلّ الذي أسّست له الاتفاقات الانتقالية، من دون أن ينتج حلاً سياسياً مقبولاً، حتى للذين وقّعوه
رحلة المنفى الفلسطيني وصلت إلى الوطن عبر صيغةٍ مُختلفٍ عليها فلسطينياً، فقد أدخلت اتفاقات أوسلو الوضع الفلسطيني في عنق الزجاجة، وحبسته في وضع انتقالي غير قادر داخلياً على الخروج منه. وقد استعصى الحلّ الذي أسّست له الاتفاقات الانتقالية، من دون أن ينتج حلاً سياسياً مقبولاً، حتى للذين وقّعوه. وفي إطار الواقع الجديد الذي أنتجته هذه الاتفاقات، تشكّلت السلطة الفلسطينية التي جعلت جغرافيا فلسطينية عليها سكان فلسطينيون يخضعون لسلطة فلسطينية، وهو أول تلاقٍ من هذا النوع في التجربة الفلسطينية الحديثة. وعند هذا اللقاء، بدأ يتضح أنّ كلّ مقولات "التفوق الفلسطيني" على التجارب العربية، ما هي سوى ادعاءات وأوهام ذاتية تعزّزت لعدم دخول الفلسطينيين تجربة السلطة الفعلية. وعند دخولهم هذه التجربة، بدأت كلّ أمراض العالم العربي تظهر هناك، على الرغم من أنّ ما تمت إقامته هي سلطة حكم ذاتي محدود الصلاحيات، هذه السلطة التي افتتحت الاعتقال السياسي، والفساد المعمم، وبناء الاحتكارات، والسرقات، والسمسرة حتى مع الاحتلال، وبناء مصالح شخصية وعائلية، ومنح إقطاعيات للمقرّبين... إلخ، وظهر واضحاً أنّ هناك مشروعات سلطوية فلسطينية تبدأ من أردأ التجارب العربية.
من جهة أخرى، فكّكت اتفاقات أوسلو المشروع الوطني الفلسطيني الاجتماعي، كما صاغته التجربة الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير، وجاءت المعارضة القوية من خارج المنظمة، وبمشروع آخر. وظهر واضحاً أنّ هناك مشروعين في الساحة الفلسطينية: مشروع التسوية، الذي استعصى على التحقق، ومشروع التحرير الكامل المستعصي على التحقق في المدى التاريخي المنظور. ومع حصول حركة "حماس" على أغلبية برلمانية وتشكيل الوزارة الجديدة، ظهرت سلطة الرأسين التي تفتقد إلى مرجعية واحدة، وبدأت الخندقة في السلطة المزدوجة وفي الشارع، وهي خندقةٌ تستند على سنواتٍ من الشحن المتبادل، ووصلت إلى اتهاماتٍ بالتآمر من كلّ طرفٍ إلى الآخر. وفي ظلّ عشرات آلاف المسلحين عند الطرفين في الأراضي الفلسطينية مستنفرين ومتخندقين، وفي ظلّ إنشاء أجهزةٍ متقابلةٍ ومتصادمةٍ وقراراتٍ متعارضة، وعدم وجود إطارات وطنية حقيقية لحلّ المشكلات، فإنّ كلّ الحديث، ومن أيّ طرف، أنّ الدم الفلسطيني خط أحمر، وأنّ أيّاً من الأطراف لن يسمح بصداماتٍ داخلية فلسطينية ـ فلسطينية، كانت تصريحات لذرّ الرماد في العيون. وما جرى على الأرض تناقض مع هذه التصريحات، لأنّ التصريحات ذهبت في اتجاه، والوقائع على الأرض ذهبت في اتجاه آخر، وبدأت الاشتباكات المسلحة بين فلسطينيين فعلاً في قطاع غزة، التي طردت حركة "حماس" خلالها حركة "فتح" منه.
المطلوب حرب فلسطينية من الجميع على الصراعات الإلغائية التي توصل إلى صدام عنيف بين الطرفين
اليوم، الخطاب السياسي المعلن فلسطينياً هو خطاب مصالحة، لكنّ الخطاب الداخلي للقوى السياسية استنفاري ضد الآخر، تريد "حماس" توظيف ما تعتبره نصرها على إسرائيل في السيطرة على القرار الداخلي الفلسطيني. والسلطة الفلسطينية (حركة فتح)، بعد الأداء السلبي تجاه الهبّة الشعبية، تريد كبح حركة "حماس". هذا الشحن المتبادل هو المنصّة التي قد ينطلق الصدام الداخلي العنيف منها، والذي يمكن أن تكون فيه يد إسرائيلية لتفجير الوضع الفلسطيني. ولأنّ الوضع الفلسطيني غير محصّن ضد هذا النوع من الصدامات، على الجميع العمل على تجنّب مصير يكاد يكون محتوماً في ظلّ كلّ الانسدادات التي يعاني منها الوضع الفلسطيني.
والمطلوب حرب فلسطينية من الجميع على الصراعات الإلغائية التي توصل إلى صدام عنيف بين الطرفين، لأنّه في حال الدخول في صراعاتٍ مثل هذه، لا أحد يعرف كيفية الخروج منها، ولا إلى أين يمكن أن يتردّى الوضع الفلسطيني. وتعلمنا السياسة أنّ الأسوأ ممكن دائماً، ولنا المثال الفجّ، في الصراع المسلح الذي وقع في قطاع غزة وآثاره غير القابلة للإزالة بعد 14 عاماً من حدوثه.
هل يدرك أصحاب القرار الفلسطيني في الطرفين أيّ مراجل تغلي داخل فصائلهم لإشعال الوضع الداخلي الفلسطيني؟