تحيّة لتحالف دولي لتنفيذ حلّ الدولتَين
فيما جدّدت الرياض تأكيدها أن إقامة الدولة الفلسطينية شرط السعودية للمضي في التطبيع مع إسرائيل، وبالتزامن مع دعوة وجّهتها إلى عقد قمّة متابعة عربية وإسلامية في الرياض (11 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري)، لبحث استمرار العدوان الإسرائيلي على فلسطين ولبنان، فقد احتضنت الرياض محفلاً دولياً هو الأول من نوعه (الأربعاء والخميس الماضيين)، مع بدء اجتماعات "التحالف الدولي لتنفيذ حلّ الدولتَين" في أراضيها. ويتزامن انطلاق هذه الفعّالية السياسية رفيعة المستوى مع هجمة إسرائيلية شرسة لتصفية الحقوق الفلسطينية، وصولاً إلى شنّ حرب إبادة ضدّ الكتلة البشرية في قطاع غزّة والضفة الغربية، والتهديدات بتوسيع الصراع في المنطقة، ومع تلكّؤ متمادٍ (أميركي ودولي)، في ترجمة القرارات الدولية ذات العلاقة، وبما يجعل انعقاد هذه الاجتماعات اختراقاً محموداً ونوعياً لحالة الجمود المديد التي اكتنفت العملية السياسية الشرق أوسطية.
وكان وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان قد أطلق مقترحَ إقامة تحالف عالمي في أثناء اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي، مشدّداً في تلك المناسبة باسم بلاده وقيادتها على أن "قيام الدولة الفلسطينية المستقلّة حقٌّ أصيل وأساسي للسلام، وليس نتيجةً نهائيةً يتم التفاوض عليها ضمن عملية سياسية بعيدة المنال"، وذلك في ردّ ضمني على مقولات أميركية ملتوية، تفيد بأن إقامة كيان وطني مستقل للفلسطينيين على أرضهم منوطٌ بمفاوضات ثنائية مع الدولة الإسرائيلية. ووفق هذا المنطق الأميركي، فإن للطرف القائم بالاحتلال أن يسمح أو يمنع الطرف الآخر من ممارسة حقوقه الوطنية الأساسية على أرضه. وفي هذا السياق، أعلن بن فرحان إطلاق "التحالف الدولي لتنفيذ حلّ الدولتَين"، قائلاً أمام الجمعية العامة: "إننا باسم الدول العربية والإسلامية وشركائنا الأوروبيين نعلن إطلاق التحالف الدولي لتنفيذ حلّ الدولتَين، وندعوكم للانضمام إلى هذه المبادرة، مؤكّدين أننا سنبذل قصارى جهودنا لتحقيق مسار موثوق لا رجعة فيه لسلام عادلٍ وشامل".
وفق المنطق الأميركي، فإن للطرف القائم بالاحتلال أن يسمح أو يمنع الطرف الآخر من ممارسة حقوقه الوطنية الأساسية على أرضه
ويُذكر هنا أن هذا التحالف الدولي يضمّ أطرافاً مؤسِّسةً هم أعضاء فريق الاتصال المشترك بين جامعة الدول العربية ومنظّمة المؤتمر الإسلامي المعنيّ بغزة (مصر، الأردن، إندونيسيا، فلسطين، قطر، تركيا، البحرين، نيجيريا، جامعة الدول العربية، ومنظّمة التعاون الإسلامي)، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، والنرويج. ومن الطبيعي أن يدعو التحالف بقية القوى الدولية، وفي مقدّمها الصين وأميركا وروسيا، للانضمام إلى هذا التحالف شديد الأهمّية. وخلافاً لمؤتمرات ومنتديات إقليمية ودولية سبق أن أقيمت على مدى عقود للنظر في مسألة الصراع والتسوية في هذه المنطقة، فإن التحالف الجديد ينصرف إلى التركيز على تنفيذ حلّ الدولتَين، وليس التبشير به والدعوة إليه، إذ من الواضح أن الغالبية الغالبة من الدول تؤمن بهذا الحلّ وتدعو إليه في سائر المناسبات، وخاصة في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، ولكن من دون التقدّم لوضع آلية سياسية وقانونية لترجمة هذا المبدأ وتطبيقه على أرض الواقع، وقد استغلّت الدولة القائمة بالاحتلال هذا القصور لتغيير معالم الوضع في الأرض المحتلّة، وأخذت تسابق الزمن في نشر الغزو الاستيطاني وانتهاك المُقدّسات الإسلامية والمسيحية، والتنكيل الجماعي بالرازحين تحت الاحتلال، وصولاً إلى شنّ حرب إبادة. وكان الظنّ أنّ العالم "المتحضّر" لن يسمح مطلقاً في القرن الحادي والعشرين بشنّ مثل تلك الحرب المنافية لمواثيق الأمم المتحدة ولأبسط القيم الإنسانية.
وحسب التمهيد له والتعريف به، فإن إطلاق هذا التحالف يمثّل ردّاً استراتيجياً موضوعياً على هذه المخاطر، بحيث يُجمَع بين الدعوة إلى وقف إطلاق نار فوري وتبادل الأسرى والرهائن، وبين التماس السبل المتاحة والواجب شقّها من أجل الانتقال إلى بلورة خطط عملية لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة، إلى جانب الدولة الإسرائيلية. وبحسب "الشرق الأوسط" السعودية، فإن اجتماع الرياض يرمي "إلى تحقيق نتائجَ ملموسةٍ لكيفية إيصال مُخرَجات الاجتماعات إلى المستوى السياسي وتنفيذها، وتقديم جدول زمني مُحدَّد لبناء وتنفيذ الدولة الفلسطينية وحلّ الدولتَين، إلى جانب اتّخاذ تدابيرَ للحفاظ على إمكانية حلّ الدولتَين، بما في ذلك كيفية ضمان المساءلة بما يتعلّق بالقانون الدولي، وتنفيذ جميع قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة". ويأتي هذا التوجّه الرشيد متساوقاً مع الاعترافات الدولية المتنامية بالدولة الفلسطينية، التي بلغ عددها، حتى تاريخه، 146 دولة، ومع انضمام دولة فلسطين إلى الأمم المتحدة عضواً عاملاً. وقد تزايدت هذه الاعترافات مع حملة التطهير العرقي التي تشنّها حكومة أقصى اليمين على قطاع غزّة، وفي أجزاء من الضفة الغربية المحتلّة.
أعلن فيصل بن فرحان أن قيام الدولة الفلسطينية حقّ أصيل وليس نتيجةً نهائيةً يتم التفاوض عليها
ويُنتظَر أن يكون اجتماع الرياض فاتحةَ اجتماعات للمتابعة أو للجان فرعية، إذ سوف تليه اجتماعات تشهدها بروكسل والقاهرة وأنقرة وعمّان وأوسلو، لتدارس عناصر مُحدَّدة في عمل التحالف الدولي لتنفيذ الحلّ القائم على وجود دولتَين، واتخاذ القرارات المناسبة لتفعيل هذا الحلّ، الذي يحظى بأكبر إجماع دولي، من غير أن يُقيَّض له التحقّق على الأرض بعد 76 عاماً من الصراع. ومن شأن المضي في هذا الطريق، بثبات، وبإيمان راسخ بوجوب تحقيق العدالة من غير تسويفات ومماطلات إضافية، أن ينقل قضية السلام العادل من منابر الخطابة والكواليس السياسية والأروقة الدبلوماسية، إلى ميدان العمل السياسي الجادّ بجداولَ زمنيةٍ ملزمةٍ، وبالاسترشاد المرجعي بقرارات الشرعية وبسائر المواثيق الدولية، وبما يؤذن بنهاية حقبة العدالة المعلّقة، ويمنح أملاً فعلياً بالخروج من دوامة التوحّش، والانتقال إلى رحاب سلام جدّي يستحقّ اسمه.
هناك كثير ممّا يُنتظر من طرف هذا التحالف الدولي، وفي المقدّمة التعامل بنجاعة مع التحدّيات الشرّيرة التي تشهرها حكومة بنيامين نتنياهو في وجه الأمم المتحدة والعالم أجمع، إذ تكمن نقطة الانطلاق هنا في التعامل مع التحدّيات الجسيمة الراهنة، وإدانة شريعة الغاب، ووضع المرتكبين أمام مسؤولياتهم الجنائية والقانونية والسياسية. كما يقتضي تنفيذ حلّ الدولتين في جانب رئيس منه اعتماد إجراءات سياسية حازمة بحقّ من يقف بوجه هذا الحلّ، ويتحدّى بصلافة منقطعة النظير كلّ قانون دولي.
وفي القناعة أن هذا التحالف إذا ما تمتّع بدينامية سياسية كافية، سوف يكون أكثر أهمّية من انعقاد قمّة متابعة عربية وإسلامية، فالتحالف الجديد يضمّ أطرافا عربية وإسلامية أساسية. ومن جهة ثانية، فإن قرارات لقمم سابقة عُقِدت عقب الحرب على غزّة لم تجد طريقها إلى التنفيذ، وفي مقدّمها قرار كسر الحصار على القطاع المستباح، فما جدوى لقاءات على هذا المستوى الرفيع ما دامت القرارات تبقى حبراً على ورق؟