تداعيات وقف إطلاق النار في لبنان وغزّة

03 ديسمبر 2024
+ الخط -

فتح نجاح المساعي الأميركية في تحقيق وقف لإطلاق النار بين حزب الله والكيان الصهيوني الباب أمام التحرك لتحقيق اتفاق مماثل على جبهة غزّة، يتطابق في جوهره وأهدافه وغاياته، ويختلف في بعض تفاصيله. وما بين اتفاق لبنان واتفاق غزّة المزمع عقده، ثمة نقاط مشتركة، ولعل القاسم المشترك الأكبر بينهما يتمثل في تعريف الاتفاق بأنه وقف لإطلاق النار فترة محدّدة، وليس وقفاً للحرب وإنهاءً لها، وقد تُستخدم هذه الفترة للبحث في ترتيباتٍ لوقف الحرب بمشاركة أطرافٍ محليةٍ وعربيةٍ ودولية، تسعى جميعها إلى إحداث وقائع جديدة بالمناورات والضغوط السياسية، لعلها تنجز بالسياسة ما لم تتمكّن حرب الإبادة من تحقيقه، آخذين بالاعتبار أن أهداف الحرب الصهيونية لم تتحقق، وأن العدو يسعى، عبر هذه الاتفاقات، إلى رسم صورة انتصار.

ما زالت الاعتداءات الإسرائيلية مستمرّة، فعلى الرغم من توقيع اتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية، قصَف الاحتلال ما يزعم أنها منصات صواريخ أو مخازن أسلحة، ومنع المواطنين من العودة إلى قراهم، وقتَل من يقترب من القرى الحدودية، ووضع تعليماتٍ تتعلق بساعات الحركة المسموح بها من جنوب الليطاني إلى شماله، وكأنه الآمر الناهي الذي يسيطر على الموقف، من دون أي رد من حزب الله الذي أصبح يحيل الأمر برمّته إلى الجيش اللبناني، وسط تسريب أنباء عن وجود ملاحق للاتفاق، تبيح للجيش الإسرائيلي حرية توجيهه ضربات استباقية تمنع حزب الله من تعزير قواته في شمال الليطاني، أو استمرار تدفق الأسلحة والذخائر على لبنان، لافتا إلى أن الهدف الرئيس هو نزع سلاح حزب الله في الأراضي اللبنانية كلها، وإعادة تركيب المعادلة السياسية والطائفية في لبنان. وإذا تعذّر ذلك، لن يتردد العدو الصهيوني في نقض الاتفاق واستئناف القتال، مستخدمًا وحلفاءه سياسة العصا والجزرة التي تجمع بين استخدام القوة والضغوط السياسية.

على الرغم من صمود المقاومة في لبنان، ونجاحها في التجاوز النسبي لعمليات اغتيال قياداتها المتكررة، وتخطي عمليات تفجير البيجر وأجهزة اللاسلكي، وإعادة منظومة القيادة والسيطرة إلى العمل، وبسالة مقاتليها في الجنوب اللبناني، لكن الاتفاق نجح في فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، وأنهى ما عُرف بجبهة الإسناد (وإنْ لا تزال مستمرّة في اليمن والعراق). وبحسب خُطب الأمين العام للحزب، الشيخ نعيم قاسم، إن دعم غزّة سيستمر بأشكال أخرى، في إشارة واضحة إلى توقف الإسناد العسكري بعد وقف إطلاق النار. كما أشار الشيخ بوضوح إلى انصراف الحزب إلى المشاركة في المعادلة السياسة اللبنانية الداخلية، وانتخاب رئيس للجمهورية، والالتزام ببنود اتفاق الطائف، وألقى بمسؤولية الدفاع عن الجنوب والمحافظة على الأمن على كاهل الجيش اللبناني. بمعنى آخر، انصرف حزب الله الآن (ما لم يعد إلى التورّط في سورية مجدّداً) إلى ترتيب أوضاعه في الداخل اللبناني بوصفه حزبًا سياسيًا، والمحافظة على قوته التمثيلية لطائفته في وجه القوى الأخرى التي تتربص به، سواء كانت من خصومه التقليديين أو ربما من داخل الطائفة ذاتها، إذ إن إعادة دمجه في النظام السياسي اللبناني التقليدي، ستُفقده عناصر قوته المتمثلة أساسًا بفكرة المقاومة، وستجعله أكثر عرضة للتأثيرات الداخلية والخارجية، حاله حال القوى السياسية والطائفية المختلفة التي تحدد سياساتها تلك المؤثرات، ولا تستطيع تجاوزها في ظل معادلة شديدة التعقيد، تستند إلى الدعم الخارجي والقوة التمثيلية ذات المكوّن الطائفي. في وقت يبدو السعي إلى كسر هذه المعادلة بمنزلة الدخول في دهاليز حروب داخلية، بدعم وتحريض خارجيين لن يخرج منها أحد منتصرًا أو مهزومًا.

بين اتفاق لبنان واتفاق غزّة المزمع عقده نقاط مشتركة، ولعل القاسم المشترك الأكبر بينهما تعريف الاتفاق بأنه وقف لإطلاق النار فترة محددة، وليس وقفاً للحرب

على جبهة غزّة، وبعد 14 شهراً على بدء معركة طوفان الأقصى، ووسط حرب الإبادة الجماعية، وشبح المجاعة في ظل شح المساعدات الإنسانية، وصمود المقاومة الأسطوري، واستمرار حرب الاستنزاف التي تخوضها، تعود المفاوضات لتطل برأسها من جديد، بعد توقف طويل، من أجل الوصول إلى وقف مؤقت لإطلاق النار مدة تدوم ما بين 42 و60 يوماً، يجري فيه الإفراج عن بعض من تبقى من الرهائن الإسرائيليين، وسط عملية تبادل للأسرى، وفتح مؤقت لمعبر رفح خلال وقف إطلاق النار، يسمح بدخول نحو 200 شاحنة يوميّاً، وانسحاب محدود من محور صلاح الدين (فيلادلفي) الملاصق للحدود مع مصر، وعودة محدودة للنازحين إلى شمال غزّة (تشكّل طريقة العودة، وآلية رقابة الجيش الإسرائيلي عليها من خلال محور نتساريم، إحدى نقاط الخلاف).

طالما تمسّكت حركة حماس بشروطها في المفاوضات التي تمثّلت في إنهاء الحرب، وانسحاب الجيش الإسرائيلي، وعودة النازحين إلى ديارهم، وإدخال المساعدات الإنسانية، وتبادل الأسرى. لكن ما يميّز مفاوضات اليوم التي تجري برعاية مصرية - أميركية - قطرية أن ثمّة متغيّرات في أولويات الاتفاق، إذ بدا واضحاً انعدام إمكانية التوصل إلى اتّفاق يضمن إنهاء الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيلي، نظراً إلى رفض الحكومة الإسرائيلية مبدأ إنهاء الحرب، وأي ترتيبات لانسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، قبل الوصول إلى آفاق حول ترتيبات اليوم التالي لما بعد الحرب، وسط تبايناتٍ داخل الحكومة الإسرائيلية حول البقاء في غزة أو الانسحاب منها، وهو ما يجعل من الاتفاق الحالي مؤقتّاً لوقف إطلاق النار، وليس وقفاً للحرب، مع فتح نافذة فيه تفيد بأن مفاوضات ستجري خلال سريان الاتفاق حول وقف الحرب والمسائل الأخرى العالقة. وهو ما قد يفتح باباً أمام حركة حماس للموافقة، إذا حُلّت المسائل الأخرى المرتبطة بعودة النازحين وتبادل الأسرى، تحت ضغط الوضع الإنساني في غزّة.

في المفاوضات السابقة، جعلت حماس من وقف الحرب المبدأ الأساس للمفاوضات، وتراجعت قليلاً عن مسائل أخرى

في المفاوضات السابقة، جعلت "حماس" من وقف الحرب المبدأ الأساس للمفاوضات، وتراجعت قليلاً عن مسائل أخرى، منها ما يتعلق بعدد الأسرى الفلسطينيين المفرج عنهم مقابل كل أسير إسرائيلي، ونوعية الأسرى، وعدد الأسرى الفلسطينيين الذين ستتحفظ السلطات الإسرائيلية على الإفراج عنهم، وقد يكون هذا مبررًا أمام أولوية وقف الحرب وانسحاب الجيش الإسرائيلي. أما وقد تراجعت مسألة وقف الحرب، فلعل المقاومة تعيد النظر في أولوية الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، خصوصًا رموز الأسرى، مثل مروان البرغوثي وأحمد سعادات وعباس السيد وإبراهيم حامد وعبد الله البرغوثي وغيرهم. علماً أن تبييض السجون الإسرائيلية كان هدفاً رئيساً لمعركة طوفان الأقصى، كما أن التمسّك بهذا المطلب في المفاوضات قابل للتحقيق في ظل التراجع المؤقت عن وقف الحرب، والضغوط التي يتعرّض لها بنيامين نتنياهو من أهالي الأسرى الصهاينة، وضغط الإدارة الأميركية الحالية، ورغبة إدارة ترامب في الوصول إلى وقف لإطلاق النار في غزّة قبل انتقاله إلى البيت الأبيض.

على هامش مفاوضات وقف إطلاق النار في غزّة، تستمر المفاوضات بين حركتَي حماس وفتح للوصول إلى ترتيبات مشتركة لإدارة قطاع غزّة مستقبلاً، عبر تشكيل لجنة إدارية أُطلق عليها اسم "لجنة الإسناد المجتمعي"، وهي مسألةٌ مرتبطة برغبة كل من الحركتين بتثبيت دور لها في إدارة القطاع، وسط إدراكهما انعدام قدرة كل واحدة منهما على استثناء الأخرى، وإن كان ثمة سعي لتحجيم هذه الأدوار، وهو مرتبط بتداعيات اليوم التالي لما بعد الحرب في غزّة وفي الضفة الغربية، وقد يتفق مع الرؤية الإسرائيلية والأميركية والإقليمية أو يصطدم بها، وسط خوفٍ من نجاح المناورات السياسية في تحقيق ما فشلت فيه حرب الإبادة في فلسطين.

34BA9C91-C50D-4ACE-9519-38F0E79A3443
معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.