ترامب فكرة لا تموت
قرّرت لجنة التحقيق التي شكلها الكونغرس الأميركي بشأن أحداث اقتحام مقر الكونغرس في 6 يناير/ كانون الثاني 2021، استدعاء الرئيس السابق، دونالد ترامب، للاستماع إلى شهادته، واستكشاف مدى تورّطه في ذلك الحادث الذي قامت به مجموعات متطرّفة، رفضت الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية 2020، إلا أن الوصول إلى هذا المستوى المتدنّي في الممارسة السياسية والسلوك المجتمعي يؤكّد حدوث تغير جوهري في منظومة القيم والمعايير داخل المجتمع الأميركي، ومن ثم توجهاته وسلوكه.
خسر ترامب الانتخابات، وخرج من البيت الأبيض قبل 20 شهراً. وعلى الرغم من ذلك، لم يزل حاضراً بقوة في الساحة الأميركية ولا يزال محبّوه ينتظرون عودته إلى البيت الأبيض في 2024، ويعتبرون ذلك استعادةً لحقه وحقهم الذي جرى إهداره وسرقته منهم في انتخابات 2020.
جاء هذا "الصمود" من ترامب وأنصاره، على الرغم من اعتراض مختلف المؤسّسات الأميركية على سياساته، وتحفظها علناً على طريقته في إدارة الدولة وعشوائيته في اتخاذ القرارات. وأيضاً بعد تعرضه لعملية "تصفية" سياسية تضمّنت اتهامه بتهميش المؤسسات الديمقراطية، ثم الاستيلاء على مستندات ووثائق سرّية عثر عليها مكتب التحقيقات الفيدرالي في بيته. ولم يكن الإعلام بعيداً عن تلك العملية، حيث أُوقِف حساب ترامب على منصة التغريدات الإلكترونية "تويتر". وبعد أن بادر ترامب إلى تدشين منصّة إلكترونية خاصة به، أطلق عليها "تروث سوشيال"، وبدأت بالفعل تستقطب أعداداً من الأميركيين، عادت شركة تويتر وحذفت من منصّتها عدداً كبيراً من الحسابات ذات الصلة بترامب والمجموعات المناصرة له.
ولا يعني ذلك أن ترامب مظلوم أو أنه مستهدفٌ بغير حق، بل العكس هو الصحيح، فهو الذي حاول الانقلاب على الديمقراطية الأميركية، وكسر آلياتها المتعارف عليها وتغيير تقاليدها المعمول بها منذ عقود. لكن المعنى الكامن في كل تلك التطوّرات أن تغيراً عميقاً وخطيراً طرأ على الأميركيين. ربما ليس على المسؤولين وأصحاب القرار أو الإعلاميين، لكنه بالتأكيد وقع في النطاق الأوسع والأخطر، وهو المجتمع، وتحديداً الشرائح الدنيا منه، التي تمثل قلب الجسد الأميركي وروحه. أما الطبقة السياسية، التي تمثل العقل بالنسبة إلى هذا الجسد، فلا تزال، على الأقل حتى الآن، لم تصبها تلك التغييرات المجتمعية. أو بالأصح لم تتصاعد نتائج التغيير وإفرازاته لتلامس تلك الطبقة. ولذلك نبّه بعض المراقبين للشأن الأميركي إلى ما يعنيه فوز دونالد ترامب بانتخابات 2016 من دلالات عميقة أهم وأخطر من وصول رجل أعمال ليبرالي جشع إلى البيت الأبيض. وهو ما انكشف بالفعل لاحقاً، ليس فقط بأسلوبه الغوغائي في الحكم، لكن أيضاً بالأهم، وهو ازدراء المؤسسات والتقاليد والأعراف والقيم الديمقراطية التي توافق عليها الأميركيون، وحرصوا على ترسيخها على مدار أربعة قرون.
هذه الحرب التي تدور سجالاً بين أنصار الديمقراطية ومدّعي احتكار الحقيقة والحق لن تنتهي بسرعة، وربما ليس بسلام، فترامب ليس سوى رأس حربة لعشرات الملايين من الأميركيين الرافضين لمنظومة الحياة الأميركية ككل، وليس فقط للنظام السياسي أو لآلية الانتخابات الرئاسية. ورغم التناقض بين وضعية تلك الملايين، حيث معظمهم من الفقراء والمشرّدين، وترامب المليونير الرأسمالي وأولئك الشعبويين اليمينيين، إلا أن الرئيس السابق يمثل لهؤلاء الرمز و"المخلص" من رتق العبودية الأميركية.
وفي ظل انضواء كثيرين منهم تحت لواء تنظيمات وجماعات متطرّفة، فإن تلك الظاهرة من التطرّف والشعبوية لن تتوقف قريباً، وسيزداد المد اليميني الأميركي صعوداً وتقدّماً نحو البيت الأبيض، بل والكونغرس أيضاً. وحتى لو غادر ترامب الساحة نهائياً، سيجد هؤلاء لهم رمزاً وقائداً ومخلصاً جديداً، وغالباً سيكون أكثر تطرّفاً وشعبوية واندفاعاً من ترامب.