12 أكتوبر 2024
ترامب مسألة ثقافية
بادر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إلى تنظيم ندوةٍ في الدوحة، أمس السبت، عن تداعيات فوز دونالد ترامب برئاسة أميركا، شارك فيها باحثون ومختصّون. ومع بديهية دور المؤسسات في صناعة القرار الأميركي، إلا أن الرئيس يطبع هذا القرار، في معالمه العامة، بتأثير وازنٍ وبالغ الأهمية. وإذ صار معلوماً أن دونالد ترامب يحوز جهلاً مريعاً في معرفة العالم، وأنه يتّصف بالركاكة والسطحية (والفظاظة)، وانعدام اللياقة السياسية غالباً، فإن من المسوّغ أن يبعث هذا الحال على القلق في غير مطرحٍ في العالم. وإذ يرى الباحث مروان قبلان، في ورقته في الندوة، أن ترامب إذا نفذ الوعود والتعهدات التي أطلقها في حملته الانتخابية، فذلك يعني أنه سيُحدث انقلاباً في السياسة الأميركية، وبالتالي في العلاقات الدولية، يُخالف ما انتظم عليه العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ هذا هو الحال، فإننا موعودون بمفاجآتٍ صادمةٍ ربما، لم يستعدّ أحدٌ لها، بالنظر إلى أن السيناريوهات التي تم التفكير فيها بُنيت على نيل هيلاري كلينتون رئاسة الولايات المتحدة.
ومع الانعزالية ذات السّمت اليميني الظاهر، والاستعراضيّة التي تعلن "أميركا أولاً"، ومع النزوع إلى استثمار المشاعر القومية، والتبشير بعداءٍ للعولمة، وغير ذلك من شعاراتٍ رفعها ترامب، أوصلته إلى البيت الأبيض، فإن مناخاً ثقافياً آخر سيستجدّ في أميركا، إذا ما قيّض لهذه الأفكار، وأخرى غيرها جهر بها ترامب وأنصاره، أن تتنزّل على الواقع. وكان مهماً أن نستمع إلى تحليلٍ معمّقٍ للبعد الثقافي في مسألة انتخاب ترامب، في محاضرة افتتاح الندوة، لمدير المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، الدكتور عزمي بشارة، وقد تعلقت أساساً بصعود اليمين واستيراد "صراع الحضارات إلى الداخل". ويستحقّ هذا البعد أن يُلتفت إليه بالدرس الوافي، ويمكن أن تنبني على مساهمة الدكتور بشارة بشأنها تصوراتٌ واجتهاداتٌ أخرى، تتصل بداهةً ببحثٍ مركّز في المجتمع الأميركي والمتغيّرات الحادثة في أحشائه وطبقاته.
تأتي المحاضرة على صراعٍ في أميركا بين ثقافتيْن، تسود الأولى لدى قطاعاتٍ اجتماعية متلبرلةٍ ثقافياً واجتماعياً، يمكن ترسيم ملامحها بوصفها فئاتٍ وسطى من قطاعاتٍ خدميةٍ وأكاديميةٍ وتكنوقراطيةٍ وغيرها، وتعيش في المدن الكبرى غالباً، وهي مستفيدةٌ من العولمة والتجارة الحرة، وهي ليست بريئةً تماماً من العنصرية ومن الموقف من الآخر، ولا هي متحرّرة من الخوف من الآخر أيضا، لكنها أقدر على تحمّل الاختلاف، لأنها مهيمنة وقوية. والثانية ثقافةٌ محافظةٌ وتقليديةٌ عابرةٌ للطبقات، لكنها سائدة بشكل خاص في الأرياف الغنية والفقيرة المحافظة التي تنظر بريبةٍ وشكٍّ إلى ثقافة المدن الكبرى، باعتبارها منحلّة. وفي مراحل الأزمات، تلتقي معها فئاتٌ اجتماعيةٌ حديثةٌ متضرّرةٌ من الحداثة والعولمة، ناقمة على النخب والمؤسّسة، ومنها أوساط واسعة من الطبقة العاملة البيضاء.
تتوسّع المحاضرة التي يُستلّ منها هذا الاقتباس المطوّل في إيضاح ما يمكن اعتباره تحولًا ثقافياً قيد التشكّل في المجتمع الأميركي (بل في الغرب عموما ربما)، تبدّى نجاح ترامب واحداً من تمثيلاته، وإنْ مع فارق نحو ثلاثة ملايين صوت للمواطنين، لصالح هيلاري. ومن مفارقاتٍ ظاهرةٍ في هذه المسألة، غير الهيّنة التفكيك، ذهاب المحاضرة إلى أن ترامب وأباطرة المال والأعمال المحيطة به لا يمثلان مصالح العمال، بل تستفيد هذه الفئة من دون شكٍّ من تأجيج التنافس داخل الطبقة العاملة، وتوجيه نقمتها نحو الأقليات والشعوب الأخرى وغيرها. وعندما يلحّ الدكتور عزمي بشارة على أن هذه الاستراتيجيات يُدركها أي نقابي منذ القرن التاسع عشر، فيما لا يمكن فهمها في الظرف التاريخي العيني من دون البعد الثقافي، فإن في هذه الإشارة ما يشبه التوصية في تنبيه أهل الاختصاص من الباحثين في علم السياسة وأدبيات الانتخابات ومحللي مواسمها الدورية إلى الثقافيّ البعيد في الظواهر المستجدّة. وإذا كانت أغلب الأوراق التي قدّمت في الندوة قد اجتهدت في الوقوف على معالم سياسة ترامب المتوقعة، وعلى "فلسفته" و"عقيدته"، فإن المضامين والحمولات الثقافية التي ستعبّر عنها هذه السياسة، كما سنراقب هذه السياسة وسنتابعها، تبقى زوايا مهمةً لفهمها، ولاستنتاج كيفيات ملائمة للتعامل معها.