ترامب والطعن بنتيجة الانتخابات
لا يسجّل تاريخ انتخابات الرئاسة في أميركا حوادث تزوير كبيرة، رغم وجودها قديماً في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وفي الآونة الأخيرة، يعترف المرشّح الخاسر عادة، بعد ظهور النتائج، بخسارته، ويبادر إلى تهنئة خصمه، وشكر أنصاره، ثم يختفي مخلّفاً المسرح السياسي للرئيس المنتخب، من دون أن يذكر في حديثه شيئاً عن مخالفاتٍ كبرى وقعت في أثناء عملية التصويت، وأثّرت على النتيجة، ولكن خرقاً لهذه القاعدة حدث في انتخابات عام 2020، عندما أصرّ دونالد ترامب على أن تزويراً واسعاً قد حصل في أثناء الانتخابات مكّن خصمه من الفوز، منها أن الموتى صوّتوا لصالح بايدن، كما وجّه اتهامات إلى عمليات التصويت عبر البريد، وقال إن بطاقات البريد الانتخابية ذهبت في معظمها إلى بايدن، الأمر الذي يجعل مصداقيّتها موضع تساؤل. وقال إن ناخبين صوّتوا أكثر من مرّة! وأصرّ على موقفه بوجود تزوير، وإن فوزه سُرق منه. ورفع مع أنصاره وممثليه أكثر من 40 قضية، تتهم مسؤولين ومؤسّسات بالتزوير.
لم تطوِ أربع سنوات من عهد بايدن تلك القصة، فقد ظهر المرشّح القديم الجديد، ترامب، ملوّحاً بالقضية ذاتها، وهو الآن يتكئ عليها بقوة وكأنها أساسٌ انتخابيٌّ في حملته، فيقول، بصوتٍ عال، إن التزوير سيحصل، والديمقراطيون يبيتون ويعدون الخطط للقيام بتزوير واسع لضمان فوزهم. لذلك لن يفشل عبر الصندوق الانتخابي، كما قال، لكنه خائف من تزوير ذلك الصندوق. يحاول ترامب أن يكرّر التهمة بطرق عديدة، ويحثّ اللجان المسؤولة عن الانتخابات على النزاهة، بل يهدد أيضاً بمقاضاة كل مزوّر وسجنه، حتى وصل إلى تحريض رجال الشرطة من أجل التدخّل إن لزم الأمر.
تشيع النتائج المتقاربة بين المرشّحين شعوراً بالتزوير لدى الخاسر، وقد يصعُب اعترافه بخسارةٍ ذات هامش ضيق للغاية، وشهدت انتخابات عام 1960 بين نيكسون وكينيدي فوز الأخير بفارق أصوات لم تتجاوز115 ألف، ما يفتح الباب أمام نيكسون للتفكير في رفض النتيجة، ولكنه قبِلَها، واعترف بخسارته قبل صبيحة اليوم التالي. اعترف كذلك الحزب الجمهوري بالخسارة، في حين أن ترامب لم يعترف بهزيمته أمام بايدن، ما شجّع بعض أنصاره، فانقضّوا على مبنى الكونغرس واحتلّوه مؤقتاً، وفق إعلان موقفٍ رافض للانتخابات. ورغم أن ترامب سلّم السلطة، في النهاية، في الموعد المحدّد، بالسلاسة المعهودة، لكنه بقي متمسّكاً بأن بايدن قد فاز بانتخابات مزوّرة. وبهذا الشعار، بدأ حملته لانتخابات عام 2024، وشعاراته الانتخابية تزدحم بمقولاتٍ تخصّ النزاهة والتشكيك في النتائج. وفي المقابل، تمتلئ تلك الشعارات بالثقة المفرطة في الفوز، التي يقدّمها لأنصاره كأنها نتيجة مضمونة، ولكن بعد أن يضع شرطاً لها، عدم الاقتراب من الصناديق بنيّة التلاعب بها.
اختلف موقف الرئيس الجمهوري، ريتشارد نيكسون، عن ترامب، حيث سارع إلى الاعتراف بالهزيمة أمام كيندي، وكان عليه أن ينتظر ثماني سنوات ليعود ويفوز في انتخابات 1968، ليسقط بعدها بقضية التنصّت، فيما عرف بفضيحة ووتر غيت، التي تعد أسوأ من تزوير الانتخابات. أما ترامب، المتمسّك بصلابة بموقفه، فقد جعل من التزوير شعاراً انتخابياً يتبنّاه أنصاره على نطاق واسع. وقد يعود ذلك إلى تغيّر نظرة الجمهور الأميركي نحو قياداته السياسية، فقد كان حوالي 78% من الجمهور يرى أن القادة السياسيين قادرون على اتخاذ مواقف صحيحة، أو غالباً ما يفعلون، وانخفضت هذه النسبة بعد "ووتر غيت" إلى 48%، لتنخفض إلى 24% في 1980.
لم يحاول نيكسون عام 1960 الاستفادة من مناخ مؤاتٍ ليطعن بالنتائج، وفضّل أن يحافظ على الشكل المؤسّسي لعملية الانتخابات، فسقط بعدها بأمر آخر، لكنه أيضاً احترم قرار المؤسّسة، وفضّل الاستقالة والخروج بصمت. أما ترامب فيطعن حالياً بالانتخابات حتى قبل أن تبدأ، موجّهاً ضربة إلى المؤسّسة التي كان رئيسها يوماً، وعينُه على العودة إليها.