تركيا ومصر وفرصة التنسيق بشأن ليبيا
تُشير تداعيات الاشتباكات في العاصمة الليبية طرابلس في الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، إلى تغيرات في السلوك الإقليمي، فقد بدت تصرّفات تركيا ومصر أكثر استجابة لضبط الصراع والانتقال نحو توطيد الانفتاح على الحل السلمي. وعلى الرغم من مشوار الخلاف بين البلدين بشأن مسار السياسة في ليبيا، تتّجه التحركات الراهنة لتكوين سياق إقليمي من شأنه استيعاب جزءٍ مهم من التناقضات الليبية، لكنه، في الوقت نفسه، يثير الجدل حول فرصة تكوين قاطرة إقليمية لتجاوز التعقيدات الدولية بشأن الأزمة الليبية.
وفي رد فعل على تلك الأحداث، بدت مواقف مصر وتركيا والجزائر متقاربة، عندما تلاقت على أولوية إنهاء التدخل الدولي، واعتبار الحل العسكري مدخلاً إلى مزيد من الاضطراب. وقد اعتبرت البلدان الثلاثة أن الحل السلمي وانعقاد الانتخابات يوفر الأرضية الملائمة للاستقرار والوفاق الوطني. ولذلك، تبدو مساع لجعل النزاع على السلطة خلافاً ثانوياً وخفض التحيز لدى الترتيب للحل السلمي. وفي هذا السياق، تُعبر تحرّكات المسؤولين الليبيين بين تركيا ومصر عن فرصة لتنسيق دور إقليمي، يكون من ركائز صنع القرار الدولي حول ليبيا، غير أن ضبط الجماعات المسلحة يُشكل قيداً على استقرار مواقف المكونات الليبية وعقبة أمام تحقيق السلام.
وبشكل عام، يمكن النظر إلى السياقات التركية والمصرية امتداداً لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في مايو/ أيار 2020، كما يمكن أن تشكّل إطاراً لتحويل الصراع بروافع إقليمية، حيث يمكن قراءة تحرّك المسؤولين الليبيين نوعاً من قابلية ترقية الدور الإقليمي، فقد صارت الوجهة المصرية أكثر انفتاحاً، وضمن فواعل ترتيب المرحلة الانتقالية، فلم تقتصر على التمسّك بمشروعية مجلس النواب، لكنها تواصلت مع حكومة الوفاق الوطني، وفتحت الطريق للتواصل السياسي مع كل الأطراف الليبية، باستضافة ممثلي مجلس الدولة ضمن اللجان المشتركة (الدستورية، الاقتصادية والأمنية)، حتى صارت زيارات رئيس مجلس الدولة خالد المشري إلى القاهرة اعتيادية.
تُمثل التطلعات التفكيكية السلوك السائد في التعامل مع كل ما يتعلق بالانتقال السياسي
كما أنه بعد مشوار من الاستقطاب الإقليمي بشأن ليبيا، اتجهت تركيا، خلال ما يقرب من عام مضى، إلى الانفتاح على كل الفواعل الليبية، ولم يقتصر الحديث عن فتح قنصلية في بنغازي، وإنما زيارات متتالية للممثلين الرسميين من الشرق الليبي. وقد لقيت المبادرة التركية بالتواصل مع الشرق الليبي استجابة من المكونات السياسية، وقد لازم التَغير المتبادل تحول في الخطاب والمواقف، وخصوصاً من أعضاء في مجلس النواب وبعض الوجهاء السياسيين، حيث صار الاهتمام بفتح قنوات اتصال وبناء علاقات سياسية واقتصادية تقوم على استقرار ليبيا.
وعلى مستوى توجهات الليبيين، يبدو واضحاً سهولة الانتقال بين أنقرة والقاهرة، ما يُمكن أن يُشكل أرضية القبول بوساطات إقليمية لسد فجوات وعيوب الهيمنة الأوروبية والأميركية. وفي هذا السياق، يمكن أن يُمثل تقييم المندوب الليبي لدى مجلس الأمن، 26 يوليو/ تموز الماضي، القاسم المشترك لإدراك جوانب النقص في الدور الدولي، والتَعرُّف إلى مصادر عدم الاستقرار، حيث هو في مضمونه تعبير عن اليأس من تحرّك دوليٍ لإنقاذ الوضع الليبي، فقد أورد مؤشّرات كثيرة إلى ميراثٍ من فشل الأمم المتحدة في منع الحرب أو في بناء الدولة. ويعكس هذا التقييم اهتزازاً لقناعاتٍ، ظلت رائجة، بامتلاك البلدان الغربية وحدها الحل السياسي، غير أنه رغم ضآلة الإنجاز الأوروبي ـ الأميركي، تنخرط حكومة الوحدة الوطنية في الدعوة إلى مؤتمر دولي، يُعقد في ألمانيا في شهر سبتمبر/ أيلول الجاري، لكي تجد متنفساً من قيود إقليمية محتملة، من شأنها تقليل انفراد رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة بالمشروعية القانونية، فظهور الحديث عن المؤتمر جاء متزامناً مع القبول الإقليمي بكل الفاعلين الليبيين، رغم عدم قبوله باستمرار مجلسي النواب والدولة.
وهنا، تبدو أهمية الاقتراب من تقييم السياسات الغربية، فعلى الرغم من تبنّي الغرب وقف إطلاق النار وعقد حوار وطني، لم تتضح رؤى أو توجهات لتطوير حل نهائي للوضع الليبي، واقتصرت مواقفه على تأكيد مشروعية الحكومة المُعترف بها من مجلس الأمن. وباستثناء التلاقي على تسليم الحكم لفئات موالية للغرب، تظهر الاختلافات الدولية إزاء وحدة ليبيا، فبينما هي مُرجّحة لدى البريطانيين والأميركيين، ترى فرنسا التقسيم حلاً بديلاً ومُمكناً.
بعد مشوار من الاستقطاب الإقليمي بشأن ليبيا، اتجهت تركيا، خلال ما يقرب من عام مضى، إلى الانفتاح على كل الفواعل الليبية
قد لا تتوفر الرغبة لدى الغربيين وروسيا في استقرار ليبيا، حيث تُمثل التطلعات التفكيكية السلوك السائد في التعامل مع كل ما يتعلق بالانتقال السياسي، وكان جديدها أخيرا التخطيط لانفراط الانتخابات بالتكاسل عن تفعيل لجنة الحوار السياسي (لجنة 75) والقبول بقوانين معيبة. واكتفت البعثة الأممية وغيرها من مؤسّسات بالحديث عن تقديرات متفائلة، وأخرى متشائمة، للوضع في ليبيا، كما تحول دور السفراء الغربيين والأمميين إلى حملة علاقات عامة، لم تُثمر شيئاً سوى التلاعب بسلطة الاعتراف الدولي، بحيث لا توفّر الأطر الدولية حلاً في الوضع الراهن، فقد ظلت سياساتها، على مدى الحالة الانتقالية، قائمةً على التحيز وغياب تصوّر للخروج من الأزمة، سوى التركيز على عدم الاعتراف بالجهات غير المرغوبة، وحرمانها من السلطة والثروة.
وفي ظل أزمة أوكرانيا، صارت أوروبا أكثر انشغالاً بتأمين احتياجات الطاقة وتقليل حدّة الصراعات في حوض المتوسط. وخلال تلك الفترة، نشط حراك سياسي بين ضفتي المتوسط، حيث جرت لقاءات ثنائية بين مسؤولين عديدين على مستويات مختلفة، وخصوصاً بين مصر وتركيا والجزائر وكل من إيطاليا، فرنسا، ألمانيا وبريطانيا. وبينما تركّزت الاتصالات الجزائرية على المصالح المشتركة، كانت الأزمة الليبية ضمن اتصالات تركيا ومصر، حيث أشارت البيانات المُشتركة إلى الالتزام بسيادة ليبيا وسلامة أراضيها وإعادة بناء مؤسسات الدولة. غير أنه بينما تنفتح البلدان الثلاثة على مجموعة الدول الأوروبية والولايات المتحدة، بقيت اتصالاتها الثنائية دون المستوى المناسب للتعامل مع الأزمة الليبية، وما زالت في مرحلة معالجة القيود على العلاقات الثنائية. وفي هذا النطاق، يرتبط تراجع إطار دول الجوار باختلاف ترتيب أولويات المرحلة الراهنة. فقد اهتمت الجزائر بترتيب الملفات المغاربية، وكان تركيزها الربط ما بين استقرار ليبيا واحتياجات الأمن الوطني، بالإضافة إلى دعم حق تقرير المصير لإقليم الصحراء الغربية. ووفق هذا السياق، يكون وضع ليبيا ضمن السياسات المغاربية من المحدّدات الجزائرية، ما يمكن أن يُفسّر جزئياً تَوَقُف إطار دول الجوار الليبي، بسبب اختلاف تقديرات مصر للسلامة الإقليمية للمغرب.
تُعبر تحرّكات المسؤولين الليبيين بين تركيا ومصر عن فرصة لتنسيق دور إقليمي يكون من ركائز صنع القرار الدولي حول ليبيا
وعلى الرغم من القيود الراهنة، تظلّ فرصة التنسيق قائمة لانخراط البلدين في دوائر كثيرة مختلفة. فعلى المستوى الدولي، تُساهم مشاركة مصر وتركيا في منتديات كثيرة عن ليبيا في تكوين مساحة لطرح السياسات تجاه استقرار ليبيا، فمشاركتهما ضمن مجموعة 3 + 2 (تضم فرنسا، بريطانيا والولايات المتحدة وإيطاليا وألمانيا)، قامت على أساس نفوذهما في شرق ليبيا وغربها. وبالتالي، تبدو أهمية التنسيق في مؤتمر ألمانيا المقبل، وهو ما يُعدّ رابع اجتماع بعد انعقاده في تونس، روما وأخيراً إسطنبول في يوليو/ تموز الماضي. وعلى المستوى الإقليمي، يكشف قبول الليبيين بدور البلدين عن زيادة فرصة التنسيق بينهما، استناداً لتنامي الإدراك بقدرة البلدين على المساهمة في رسم خريطة الانتقال للانتخابات وتسوية بعض الخلافات بين الليبيين.
وعلى أي حال، تساعد سهولة تحرّك المسؤولين الليبيين بين القاهرة وأنقرة على إعادة التقييم في اتجاهين؛ فمن جهة، صارت هناك فرصة لتجاوز حقبة الاستقطاب المُصطنعة منذ 2014 والإيحاء بأن مشكلة ليبيا ترتبط بالتباعد المصري ـ التركي وتجاهل الدور السلبي لأطرافٍ أخرى. كما أن هذه الفرصة، من جهة أخرى، تساهم في التوافق على ملامح الانتقال السلمي وخفض قدرة الراغبين في الحرب، فبجانب انفتاح العلاقات الثنائية، كان الحديث عن دور تركي لمنع انفلات الحرب في طرابلس بهدف وأد احتمال نشوب حرب طويلة، كما يعكس حراك الرباعي الليبي بين البلدين تزايد القابلية للتسوية والانتخابات، وتوسيع هامش الفاعلية الإقليمية في مقابل التدخل الدولي.