تصفية المعارضين
من أبلغ الدروس المستقاة من متواليات الواقع السياسي التاريخي العراقي أن إسكات صوت المعارضة لا ينفع بشيءٍ سوى في تأجيل حلّ المشكلة، وربما يفاقمها، فالأصل أن الناس على مذاهب شتّى ومشارب متنوّعة، بحسب تنوّع الخلفيات الثقافية والاجتماعية وتغاير المصالح واختلافها، وموقع الأفراد داخل خريطة المنافع والمكاسب أو الحرمان.
التاريخ مليء بالحوادث والمواقف التي تشير إلى اضمحلال صوت المعارضة وتلاشيه مع الزمن، بحسب عوامل داخلية ذاتية، أو شدّة العسف والظلم المسلّط عليها من الخارج، ولكن هذا التاريخ يذكر لنا أمثلة أكثر عن صمود المعارضة أمام الزمن، وتكيّفها مع ظروف القهر لإنشاء دفاعاتٍ قوية تجعلها مستمرّة وباقية رغم كلّ شيء. خصوصاً مع عصرنا الحالي، حيث الانفتاح المعلوماتي يجعل سيطرة الأنظمة السياسية على تدفّق المعلومات أمراً صعباً.
في روايته الأشهر "مائة عام من العزلة"، يشير غابرييل غارسيا ماركيز إلى حادثة وقعت في بلده في سنة ميلاده، مذبحة إضراب مزارع الموز عام 1928، والتي جرى التعامل معها على أنها لم تقع، بسبب غياب التغطية الإعلامية، والإرادة السياسية في تغييب هذا الحدث المروّع الذي راح ضحيته مئات وغيّب بسببه الآلاف، ولكن الحدث مُحي من الوثائق والكتب، ولم يعد موجوداً إلا في صدور شهود العيان، وهؤلاء سيأخذون حقيقة الحدث معهم إلى قبورهم بعد الموت.
يقوم ماركيز بتخليد رمزي لهذا الحدث المأساوي بتوظيفه داخل نسيج الرواية الأدبي، وكأنه يقول إن الأدب هو حاجز الدفاع الأخير للذاكرة إزاء السلطة وجبروتها. ولكن، إن لم يستطع النظام السياسي منع تدفّق المعلومات، وبالتالي منع الأصوات المعارضة له، فإنه يستطيع "إغراقها" بمعلوماتٍ مزيّفة، فيختلط الحقيقي مع المختلق والمزيّف.
قدّمت لنا التغطية الإعلامية التي قامت بها منصّات وقنوات ومواقع تواصل اجتماعي تابعة لأحزاب السلطة الحاكمة في العراق خلال أحداث انتفاضة تشرين 2019 أنموذجاً صارخاً عن الحرب الإعلامية من خلال استخدام المعلومات المزيّفة. لقد أنفقت ملايين الدولارات من أجل تركيب صور أو وضع مؤثرات صوتية، وفبركة أخبار وتلفيق تغريدات مزيّفة، ونشر معلومات تحريضية أو مغلوطة من خلال حسابات وهمية، تعمل بصيغة "الجيوش الإلكترونية"، وكانت الغالبية من هذه المعلومات المغلوطة تقوم بوظيفة الإلهاء وتشتيت أذهان الجمهور العام، وسرعان ما يتكشّف زيفها، ولكن بعضاً من هذه المعلومات صار يُعاد إنتاجها مراراً، فغدت عند جمهور كبير أشبه بالأمر المسلّم به.
ولكن، هل نجحت هذه الحرب الإعلامية المكثّفة والمكلفة بإسكات الصوت المعارض؟ إنها ربما أضعفت زخمه قليلاً، ولكنها لم تقض عليه، لأن جوهر المعارضة هنا لم يقم على اختلاف في وجهات النظر، وإنما مظلومية اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة، وشرخ هائل اتّسع خلال عقدين تقريباً ما بين أقلية حاكمة ثرية ومتسلطة وأكثرية محرومة ومقهورة. وما دام هذا الحرمان نابضاً فإن صوت المعارضة يبقى حيّاً، على الرغم من كل حملات التشويه الإعلامي والمطاردة والتغييب.
يفاخر كثيرون من رجالات السياسة الحاليين بأنهم كانوا، عقوداً، معارضين لنظام صدّام القمعي، ولكنهم لم يتعلموا الدرس أبداً، أن القمع لا يقضي على صوت المعارضة، وأن الحكمة تقتضي سلوك الطريق المعاكس؛ الحوار واحترام المخالف، ومحاولة إيجاد أرضية مشتركة للعمل بين كلّ الجهات والأطراف، والصبر على نقد الناقدين، وتدعيم سلطة الدولة التي تحمي من في السلطة وتحميه حين يخرج منها، والتخلّص من أحادية النظر والاستفراد بالمشهد، وهي آفات تطفو اليوم على سطح المشهد السياسي في العراق بصورة فاقعة.
الآلاف الذين قتلوا برصاص النظام السياسي ليسوا عمّالاً في شركة موز في مطلع القرن العشرين، يمكن تغييب ذكرهم بسهولة، فما زال أهلوهم يرفعون صورهم في كلّ مكان. وحتى مع حملات تكسير شواهد القبور، التي تجري بين حين وآخر، فإن محازبي النظام السياسي لا يقومون بشيء أكثر من إعادة تذكير الناس بأصل الجريمة، فتعود شواهد قبور الضحايا شاخصة من جديد دليل إدانة يرفع في وجوه الظلمة والمجرمين.