تعقيباً على "حقوق المثليّين في الإسلام"
نشرت صحيفة العربي الجديد مقالًا بعنوان "حقوق المثليّين في الإسلام" يوم 7 ديسمبر/ كانون الأول 2021، للكاتب محمّد طلبة رضوان، تضمن مغالطات عديدة، يمكن الوقوف مع بعضها:
أولًا: يقول الكاتب: "يبدو من النقاش الدائر، ومن غيره، حضور خطاب الواجبات، وتضخّمه، وتغييب، شبه كامل، ومتعمّد، لخطاب الحقوق، حقوق العباد على ربهم، وعلى بعضهم بعضا، وهي حقوق كفلتها النصوص ومقاصدها، فيما غابت عن خطابات أغلب من يعملون بهذه النصوص ولها، فللكافر، وهو مرتكب أكبر الكبائر، حقوق، حق أن يكفر، (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وحق أن يعلن عن كفره، ويجادل بشأنه، (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)، وهو الحق الذي لم يكتف الوحي بتقريره، بل تجاوز إلى تدوين حجج الخصوم (خصوم الله)، والردّ عليها، في آياتٍ تتلى، ويُتعبّد بها، فإذا كان للكافر حق الاعتقاد، من دون عقوبة دنيوية، وحق الجدال عن اعتقاده، من دون عقوبةٍ دنيوية، فكيف بمن هو دونه .. مثليّ أو غيره؟".
هنا يرى الكاتب ارتكاب الإنسان المعصية حقّا له، وفي هذا خلل واضح في استخدام مفهوم الحقّ، واعتبار أنّ من حقّ الإنسان أن يرتكب المعصية، والقول إنّ من حق الإنسان أن يكون مثليًّا خلل منهجي في التعامل مع مفهوم الحق، فالمعصية في التصوّر الإسلامي مخالفة قانونيّة، وليس من قانون في الكون يقول إنّ من حقّ الإنسان أن يخالف القانون، فهل سمعتم قانونًا سماويًا أو بشريًّا يقول إن من حقّ الإنسان أن يقتل غيره من البشر؟ أو من حقّ الإنسان أن يخون وطنه؟ أو من حقّ الإنسان أن يقطع إشارة المرور، أو من حقّ الإنسان أن يمشي في الطريق السريع معاكسًا للسّير؟ يبدو أنّ كاتب المقال لم يفرّق بين الحقّ في ارتكاب المعصية والمخالفة القانونيّة وحقّه في أن يدافع عن نفسه إذا مثل أمام القضاء العادل، فحقّ الإنسان في الدّفاع عن نفسه أمام القضاء بعد ارتكاب المعصية شيء وحقّه في ارتكاب المخالفة القانونيّة شيءٌ آخر تمامًا، وبينهما بونٌ شاسع، لكنّ الكاتب الكريم خلط بينهما.
القول إنّ من حق الإنسان أن يكون مثليًّا خلل منهجي في التعامل مع مفهوم الحق
ثانيًا: جاء في المقال: "أن الله، جل وعلا، لم يفرض عقوبةً دنيوية، ووردت في ذلك رواياتٌ، ضعيفة، عند أغلب المختصّين، قديما وحديثا، ولا ترتقي لدعم كل هذا الغلّ إزاء الفاعلين، لا الفعل، أو مرتكبي الجريمة، وفق التصوّر السائد. بل على العكس، فقد تربّينا، جميعا، على خطاباتٍ إسلاميةٍ تتفق على كراهية المعصية لا العاصي. وفي الحديث، الذي رواه البخاري وغيره، يستنكر النبي لعن أحد أصحابه آخر (هو النعيمان الضحّاك)، لكثرة ما يؤتى به لتنفيذ عقوبةٍ في شرب الخمر، ويقول لمن انتقده أو لعنه: (لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله).. مدمن خمر، نعم، ولكن له حقوق، تصل إلى حد النهي عن مجرد انتقاده، فمن أين جاءت خطابات العنف والكراهية والتجريس، ومن أين جاء أصحابها".
وهنا، يخلط الكاتب مجدّدا بين أمور عدة، وهي أن المثلية جريمة، فتترتّب عقوبة قانونيّة عليها، وموقف المسلم من مرتكب المخالفة القانونيّة، وخلط بينها بطريقةٍ توهم أنّ المثليّة لا تعدو كونها فعلًا يسيرًا لا يستحقّ كلّ هذه الضّجّة المثارة حولها. وقول الكاتب إنّ الله تعالى لم يفرض عقوبة دنيوية غير صحيح. وهنا خلط الكاتب بين الاختلاف في أن للمثليّة حدّا مقدّرا ومقرّرا أم لا، ولئن اختلف الفقهاء في أن عقاب المثليّة حدّ أم لا فهذا لا يعني عدم وجود عقوبة قانونيّة دنيوية للفاعل. وأمّا قول الكاتب إنّ هناك غلًّا تجاه الفاعلين فهو غير مسلّم به، فالحديث عن الظاهرة بكثير من التبشيع والتشنيع لا يعني أبدًا الغلّ، بل ينبغي أن يكون الموقف من الأشخاص، وهم يتلبسون بالمعصية، الشفقة عليهم، والأخذ بأيديهم لتجاوزها.
غدت المثلية اليوم فلسفةً أنتجت أيديولوجيا تتفرّع عنها مفاهيم تأسيسيّة، تنقض مفاهيم تأسيسيّة في المجتمع
ولكنّ العجيب حقًّا أنّ الكاتب لاحظ ما سمّاها خطابات الحقد والكراهية من المسلمين، وهي في حصيلتها خطاباتٌ لم يكن لها من آثار حقيقيّة على أرض الواقع، بينما غضّ النظر تمامًا عن حالة الإرهاب التي تمارسها لوبيات المثليّة في العالم تجاه من يفكّر بمجرّد انتقاد الظاهرة أو التعبير عن رأيه فيها، وتناسى أنّ هذا الإرهاب أنتج قوانين وتشريعات تكرّس حالة القمع الفكريّ لكل من يرفض المثليّة.
ثالثًا: كتب محمد طلبة رضوان: "غابت عن (خناقات السوشيال ميديا) جدالاتٌ مستحقةٌ حول رؤية بعض المختصّين، في الدراسات الإسلامية، من المعاصرين، عن المثلية، وكونها تختلف عن فعل قوم لوط الذي حرّمه القرآن. وأشير هنا إلى كتابات خالد أبو الفضل وألفة يوسف وآخرين، وخلاصتها أن المثلية، بوصفها علاقة بالتراضي بين بالغين، تختلف عن فعل قوم لوط الذي وصفه القرآن الكريم بأنه قطعٌ للطريق، واعتداء على الناس، وسرقتهم، واغتصابهم. وأنها، أي المثلية، ميلٌ طبيعي، وفق رؤى علمية، (غير محسومة في تقديري)، وليست اختيارا، وهي حججٌ تستحقّ النقاش والاشتباك النقدي". .. وهذا والله كلام عجيب للغاية، فهو يعتمد أقوالًا بالغة الشّذوذ في تفسير سبب استحقاق قوم لوط العقوبة، بغية التلميح إلى إمكان تقبّل المثليّة في المجتمع، كونها قابلة طبيًّا أن تكون ميلًا طبيعيًّا، بحسب كلامه. وهذا يمكن الردّ عليه ببساطة بأنّ النصّ الإلهي في القرآن الكريم بيّن جريمة قوم لوط، في قوله تعالى في سورة الشّعراء: "أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ* وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ"، فالآية توضّح بجلاء أنّ عدوانهم في إتيان الذّكور. وكذلك في قوله تعالى في سورة النمل: "وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ* أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ".
المعصية في التصوّر الإسلامي مخالفة قانونيّة، وليس من قانون في الكون يقول إنّ من حقّ الإنسان أن يخالف القانون
وأمّا تفسير قطع السبيل فهو واضح من سياق الآية أنّه متصل بالشّذوذ الجنسي، إذ يقول تعالى في سورة العنكبوت: "وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ* أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ". فمن الواضح من سياق الآية أنّ المقصود بقطع السبيل متصل بالشّذوذ الجنسي، فهو نوع من أنواع قطع السبيل الفطريّ للتناسل والتكاثر، وفي ذلك يقول الشيخ متولي الشعراوي: "وقوله تعالى: (وَتَقْطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ... ) أي: تقطعون الطريق على بقاء النوع؛ لأن الزنا وإنْ جاء بالولد فإنه لا يُوفر له البقاء الكريم الشريف في المجتمع، فالحق سبحانه جعل لبقاء النوع طريقاً واحداً، فلا تسلك غير هذا الطريق، لا مع رجل ولا مع امرأة. .. والسبيل كلمة مطلقة وتعني الطريق، سواء كان الطريق المادي أي: الشارع الذي نمشي فيه أو: المعنوي وهو الطريقة التي نسير عليها".
ثمّ إنّ تلميح الكاتب إلى أنّ المثليّة قد تكون ميلًا طبيعيًّا فإنّ هذا، على فرض صحّته، لا يغيّر من الوصف الجرميّ للفعل شيئًا، فالزّنى الحاصل بين رجل وامرأة ينسجم مع الميل الطبيعيّ للإنسان، لكنّه حين وقع على غير الصّفة التي أقرّها التشريع كان مخالفةً قانونيّة تستحقّ وصف الجرميّة، ويستحقّ فاعلها العقوبة الدّنيويّة والأخرويّة.
رابعًا: ركّز المقال على المثليّة بوصفها فعلًا سلوكيًّا فرديًّا، وأغفل أنّها اليوم غدت فلسفةً أنتجت أيديولوجيا تتفرّع عنها مفاهيم تأسيسيّة، تنقض مفاهيم تأسيسيّة في المجتمع متعلّقة بهويّة النّوع ومفهوم الأسرة. وفي إغفال الكاتب الكريم هذه النقطة ابتعاد كبير عن محل النّقاش الدّائر حول المثليّة في العالم اليوم، ويجعل المقال في وادٍ آخر عن الوادي الذي تنبت فيه كلّ الحوارات المتعلّقة بالموقف من المثليّة.