تقرير المُحاسبات ومشكلات ليبيا المزمنة
على مدى السنوات السابقة، حذّرت التقارير السابقة لديوان المحاسبة في ليبيا من حدوث عواقب وخيمة مع استمرار تراجع أداء السياسات العامة، حيث قدّمت توصيات، كان أهمها تقليل مخاطر الاعتماد على النفط بتنويع الدخل الوطني وإجراء إصلاح جذري لمناخ الاستثمار، غير أن السياسات المالية والاقتصادية لم تشهد تحسّناً، وهو ما يثير التساؤل عن عوامل ضعف الأداء المالي ومدى قدرة الدولة على الاستجابة للإصلاحات الهيكلية والخروج من الصراع على السلطة.
وفي مساحة 980 صفحة، حاول تقرير ديوان المحاسبة الليبي لعام 2021 رسم ملامح أداء الحكومة والمؤسسات العامة، حسب وظيفته في الرقابة المالية، ولم يقتصر على عرض الأداء السنوي، لكنه شمل بياناتٍ إجمالية عن السنوات السابقة، بحيث يساعد في التعرّف إلى اتجاه السياسات المالية والنقدية والإدارة الاقتصادية، بصورةٍ تساعد على متابعة التغير في الشؤون الاقتصادية، من خلال الاستئناس ببيانات الفترة الانتقالية، وخصوصاً ما يتعلّق بقدرة الدولة على الانتقال السياسي.
ويعمل التقرير استناداً لمبادئ عامة في معايير التقييم المالي والاقتصادي، مستصحباً استقرار الدولة وبسط سيطرتها على كل العمليات المرتبطة بالسياسة العامة. ولهذا استأنس بقيم المحاسبة، الشفافية، الإفصاح، وعدم الإفلات من العقاب، وبنى تناوله على افتراض توفر المبادئ العامة للمراجعة والتقييم. ويمكن قراءة الاتجاه العام للتقرير في سياق وضع الدولة وتركيز سلطاتها، بما يساعد على تفسير الأزمات التي تمرّ بها وأفق الحل المُمكنة، سواء في المستقبل القريب أو البعيد وتصوّرات معالجة المشكلات الناجمة عن الصراع على السلطة.
تحليل الإيرادات
بشكل عام، يشير التقرير إلى تذبذب العوائد في الفترة من 2014 إلى 2020، حيث بلغ متوسّط الإيرادات 28.3 مليار دينار بالأسعار الجارية، وبمتوسط عجز سبعة مليارات دينار، بحيث انتهت البلاد إلى عجز كلي فترة ما بعد اندلاع ثورة فبراير/ شباط في 2011، بلغ 41 ملياراً بما يمثل نسبة 10% من متوسط الإيرادات. وفي السنة الماضية، ارتفع الدخل الإجمالي ليصبح 418 مليار دولار، لكنه مع تخفيض قيمة الدينار في مقابل العملات الأخرى، القرار رقم 1/ 2021، ليكون 4.4548 بدلاً من 1.3366 وتراجعه بنسبة 333% من قيمته، يكون الدخل الحقيقي 125 مليار دينار بزيادة 20 مليارا.
تمثلت الظواهر المتكرّرة في غياب الحساب الختامي وتأخير تقارير المتابعة الفنية والمالية لثلاث سنوات
ومع ارتفاع معدّل التضخّم، أجرت حكومة الوحدة الوطنية تعديلاً على القرار 429/ 2021، لزيادة مخصّصات الأجور والتسيير لتكون 89 ملياراً، لتمويل ما يقرب من 268 ألف وظيفة جديدة، بما يمثل 14% من موظفي الدولة تقريباً، تم تعيينهم على مرحلتين في شهري مايو/ أيار وأكتوبر/ تشرين الأول 2021، ولم تُظهر بيانات ديوان المحاسبة توزيع الموظفين الجدد على الدوائر الحكومية، من دون اشتراط تناسب المؤهلات العلمية لشغل المناصب القيادية، وثمَّة ربط بين هذه الظاهرة وتراجع الأداء في المصارف وقطاع الكهرباء وغيرهما من المصالح العامة.
وعلى الرغم من الحدود الآمنة للعجز، يتعارض ظهوره في الحسابات القومية مع سهولة تحوّل ليبيا إلى دولة فائض ووفرة، ولذلك، يساعد البحث عن أسباب العجز في التعرّف إلى فاعلية إدارة الموارد. فمن جهة، تتضافر عوامل الحرب الأهلية في حفز الصراع على الموارد. وهنا، يُعد الإقفال المتكرّر للحقول والموانئ النفطية سبباً مباشراً في تنامي البيئة غير المستقرّة. ومن جهة أخرى، تعمل السياسات العامة على خفض كفاءة الأجهزة الحكومية، فعلى مدى المرحلة الانتقالية، لم تطرح الحكومات خططاً للتنمية، فيما استهلكت الأجور والتسيير الجزء الأساسي من الإنفاق العام.
نسيان الحساب الختامي
ووفقاً لمراجعة ديوان المحاسبة، لا يكاد يخلو قطاع من مشكلات إدارية وفساد. وتمثلت الظواهر المتكرّرة في غياب الحساب الختامي وتأخير تقارير المتابعة الفنية والمالية لثلاث سنوات. قد يرجع ذلك إلى مشكلة مزمنة في الحسابات القومية، فمنذ 2007 ظلّت الدولة بدون حسابٍ ختامي، واستمرّ الوضع على مدى المرحلة الانتقالية. وعلى مستوى المؤسّسات، لم تُقدم الوطنية للنفط بيانات مالية عدة سنوات، وبشكلٍ أثر على إعداد موازنات السنوات التالية وأولويات السياسة المالية. ولدى تدقيق حسابات النفط، ظهرت فروق بين بيانات شركة النفط ووزارة المالية بلغت أكثر من 16 مليار دينار من إجمالي 103 مليارات، ونظراً إلى نقص البيانات اعتبره ديوان المحاسبات غير حقيقي. كما رصد التقرير مخالفاتٍ، منها تصدير شحنات نفط بدون تحصيل إيرادها واستبدلتها بشحنات محروقات من دون إدراجها في بيانات وزارة المالية، وتأجيل تحصيل قيمة رسوم على الشركات الأجنبية مقدارها 10.4 مليارات دينار.
وقد امتدّت شكوى ديوان المحاسبة لمصرف ليبيا المركزي، حيث لم يتلقّ التقارير والمعلومات الضرورية للوقوف على الوضع المالي للمصرف، ما اعتبره انحرافاً جوهرياً عن الشفافية. وبغض النظر عن تعاون السلطات، فإنه مع انقسام مجلس الإدارة وعدم انعقاده لسنوات، حسب المادة 5 من القانون رقم1/ 2005، يصعب الحديث عن سياسات نقدية. ولذا يقترح التقرير انعقاد لجنة السياسة النقدية لمتابعة التطوّرات النقدية المحلية والدولية ودراسة آثارها على الاقتصاد الوطني. ويمكن تفسير ضعف استجابة المؤسسات للمراجعة المحاسبية والإدارية.
وعلى مدى صفحات التقرير، تبدو مشكلات قَيد الأموال والتعيينات في الجهاز الإداري سائدة في كل البيانات الحكومية، وبلغت نسبة الخطأ حوالي 10% تقريباً من إجمالي المعاملات الرسمية، ومنها تمويل وظائف وهمية. ويُمثل غياب البيانات الرسمية عن الحكومة المؤقتة في شرق ليبيا (2015 – 2021)، فجوة تَحول دون سلامة السياسات المالية، وخصوصاً مع اعتماد تقرير المحاسبات على مصادر ثانوية أجراها مكتب أجنبي، رصد فيه اعتماد الحكومة على مصدريْن، الودائع في البنوك التجارية وعائد طباعة النقود.
مشكلة التخطيط
وخلال ما يقرب من عشر سنوات، ظلت الحكومات تعمل بدون خطّة تنمية، واقتصر دورها على تمويل احتياجات أبواب الميزانية من دون توفر بيانات تفصيلية للاحتياجات. وقد ظهرت مشكلة نقل مخصّصات التنمية لمشاريع غير تنموية نتيجة عدم قدرة المؤسّسات على تطوير الاستثمار. وفي ظل أوضاع ليبيا، يشير تقرير ديوان المحاسبة إلى مشكلة هيكلية، حيث غياب التخطيط عن سياسة الحكومات وعدم ممارسة مجلس التخطيط الوطني اختصاصاته، ولذلك، لم يكن تخصيص أموال التنمية على أساس وجود مشروعات استثمارية، بقدر ما هي عمليات لنقل عبء تصريف الأموال للجهات التنفيذية لاستهلاكها قبل انتهاء السنة المالية، وكانت أهم صوره تحويلها إلى الأجور، وتعدّد المنَح المختلفة والإنفاق على السفارات والبعثات الخارجية.
لم تُقدّم الوطنية للنفط بيانات مالية عدّة سنوات، وبشكلٍ أثر على إعداد موازنات السنوات التالية وأولويات السياسة المالية
وفي ظل هذه العشوائية، أبرمت الحكومة عقوداً لمشروعات بقيمة 35 مليار دينار، في حين أن المخصّصات التقديرية 17 ملياراً، ما يعني وجود عبء إضافي على الدولة يبلغ 20 ملياراً تقريباً هي ارتباطات تعاقدية بدون تغطية مالية. واعتبر التقرير موافقة الحكومة هي تحميل للدولة بالتزاماتٍ مستقبليةٍ تفوق القدرات التمويلية وتزايد احتمال دفع تعويضات في حال الإخلال بالالتزامات تجاه الأطراف الخارجية.
معضلة الانتخابات
تواجه لييبا هذه التعقيدات وهي في حالة انقسام بين قوى مختلفة؛ خارجياً وداخلياً، على تجانس السلطة وقدرتها على بسط السيطرة. على المستوى الخارجي، يصدُر التقرير في سياق غياب خطة لتجاوز الوضع الراهن، فبعد نقص قدرة الأمم المتحدة على اقتراح خطّة جديدة، انتهى اجتماع برلين في 9 سبتمبر/ أيلول 2022 من دون بيان واضح لرغبة مشاركيه في التوافق على حل سياسي، واقتصر على حثّ الليبيين على التقدّم في المسار الدستوري ووقف النزاع حول السلطة التنفيذية، وهي نتائج لا ترقى إلى معالجة الانقسامات أو إعادة تكوين السلطة المستقرّة. وعلى خلاف الاجتماعات الدولية السابقة، انعقد لقاء برلين بدون حضور تام لأيٍ من الليبيين، ما قد يعكس الرغبة في تَجنب اختلاف الدول المشاركة بشأن الحكومة الشرعية وترك فرصة للانفتاح على كل الأطراف الليبية.
التحدّي الأكثر أهمية يرتبط بالقلق من تحوّل الاشتباكات شبه اليومية إلى حربٍ أهلية، وهو توجّه تزداد احتمالاته مع تعدد الفاعلين في السياسة الليبية
وعلى المستوى الداخلي، تواجه ليبيا مشكلات ما بعد تعطيل الانتخابات، فمن جهةٍ تعمل حكومة الوحدة الوطنية بتغييرات هيكلية، تؤسس لمرحلة طويلة المدى. وخلال الأشهر الأخيرة، أقدمت حكومة الوحدة الوطنية على إجراء تغييرات هيكلية في المؤسسة الوطنية للنفط (القرار 642)، ثم تشكيل المجلس الأعلى للطاقة (القرار 790)، وأخيراً محاولة حوكمة المستويات الإدارية العليا (القرار 799). لا تبدو هذه القرارات استجابةً لملاحظات ديوان المحاسبة، فقد اقتصر ردّ مجلس الوزراء على تفنيد الاتهامات بالاستفادة الشخصية وتصنيفها من متطلبات العمل، واعتبار التقرير يستهدف الفتنة والتشويش على المواطنين.
ويمكن القول إن المدى السياسي لهذه القرارات أوسع بكثير من إجراءات إصلاحية وضبط للجهاز الإداري، حيث تفتح الطريق لتجديد المجموعات الحاكمة، فهي تتعلّق بترتيب أوضاع شاغلي المناصب السيادية في مؤسّسات جديدة تجمع رئيس الوزراء، ورئيس ديوان المحاسبة، ومحافظ المصرف المركزي، ووزراء النفط، التخطيط، المالية ووزير الاقتصاد والتجارة، بالإضافة إلى رؤساء الوطنية للنفط، جهاز الطاقات المتجددة والعامة للكهرباء.
تواجه ليبيا تحدّي نقص القدرة على حشد مقوّمات الحل السلمي
وفي موازاة سياسات حكومة الوحدة، تتصاعد عوامل التوتّر من عدة مصادر، حيث استند بعضها إلى ملاحظات تقرير ديوان المحاسبات، فضلاً عن القلق من إنشاء هيئات جديدة قبل الانتخابات، غير أن التحدّي الأكثر أهمية يرتبط بالقلق من تحوّل الاشتباكات شبه اليومية إلى حربٍ أهلية. وهو توجّه تزداد احتمالاته مع تعدد الفاعلين في السياسة الليبية وتدهور قدرة أي منهم على احتواء الصراع أو حسمه.
وحسب مُعطيات تقرير ديوان المُحاسبة، تقع ليبيا في تصنيف مُتأخر للدولة الفاشلة (الكيان الليبي)، ولا تتمتع فيها السلطة بالشرعية التامة. وبغض النظر عن استناد حكومة الوحدة الوطنية للاعتراف الدولي، يظل توفر الإرادة الشعبية الطريق إلى ضبط الصراع، حيث تبدو أهمية وجود الدستور، نظام الحكم وتكامل السلطة، شروطاً ضرورية لتسوية مشكلة السلطة والدولة وإضفاء المشروعية على التصرّفات التسييرية أو الهيكلية.
ويمكن القول إن ليبيا تواجه تحدّي نقص القدرة على حشد مقوّمات الحل السلمي. وهنا، يمكن ملاحظة تشتت توجهات الفاعلين، المحليين والدوليين، وتوزّعها ما بين الرغبة في إجراء الانتخابات والحرص على استمرار النفوذ، وتشكّل هذه المُوازنة معضلة الإصلاح والانتقال السياسي، وخصوصاً مع عاملي تصاعد نفوذ الكيانات المحلية على حساب الحكومتين في طرابلس والشرق الليبي، وعدم تلاقي دولٍ كثيرة على تسوياتٍ من خارج الأمم المتحدة. وتتضافر هذه العوامل على تكوين مناخ غير مناسب لبقاء الانتخابات حلاً مقبولاً في ظل التراضي السياسي والاجتماعي.