تلك الرياضة الغرائبية
لست متابعةً مواظبة وأصلية للمونديالات ولكرة القدم عموما. علاقتي مع بطولات كأس العالم كانت تقتصر على وجودي بالمصادفة في مكان ما يتابع الناس فيه البطولة، فأراني مشدودةً ومتحمّسةً وأصرخ مع الحاضرين حين يقترب فريق ما من تسجيل هدف، أو حين تضيع فرصة التسجيل لهذا الفريق أو ذاك. خصوصا إذا ما كان المنتخب البرازيلي في الملعب. حينئذٍ، يبلغ الحماس بي حدّا لا أعرف نفسي به، فالكرة البرازيلية بالنسبة لي هي السحر بعينه، عشقتها في مرحلة فريقها الذهبي، حين كان زيكو وسقراط وسيزريو وجونيور أشهر نجوم الكرة في العالم. كان للهوى اليساري (السياسي) وقتها دور في انحيازي للفريق البرازيلي بسبب الدكتور سقراط، لاعب الوسط الأشهر، الذي كان يحمل من قيم العدالة والصوابية السياسية والأخلاقية ما يتفوّق على المتعة التي يُحدثها في لعب الكرة، أو لنقل إن علاقته بالكرة كانت لا تنفصل عن علاقته بكل القضايا القيمية الأخرى، سواء الخاص منها بقوانين اللعبة ذاتها، أو بتلك القضايا السياسية والاقتصادية الخاصة بوطنه الصغير وبالعالم. كان ذلك كافيا لكثيرين من أبناء جيلي ذلك الوقت لتشجيع البرازيل، عزّزه ذلك السحر الحقيقي الكامن في أقدام لاعبي المنتخب البرازيلي، حين يبدأون حفلتهم في الملاعب. كان الأمر بالنسبة لمشجعي البرازيل أِشبه بحضور مهرجان رقص مبهج وممتع ومثير، وكأن وجودهم في الملاعب كان للرقص والمتعة. ربما هذا ما جعلني، أنا على الأقل، لا أتذكّر من منتخبات العالم أو من خصوم البرازيل في المونديالات أحدا. كنت معنيةً بأدائهم الكروي أكثر من النتيجة، وكأن النتيجة أمر ثانوي، وكأني اعتقدتُ أن السحرة يقدّمون عروضهم ويمضون، من دون أن يكترثوا بنتائج مهاراتهم.
لم يسبق لي يوما أن تقصّدت متابعة المونديال منذ الدور الأول وحتى التتويج، رغم أنني أقيم في مصر منذ 2012، وعلاقة المصريين مع كرة القدم غريبة ومبهجة ومعدية. ومع ذلك كان مونديال 2022 في قطر المرّة الأولى لي التي أفعل فيها هذا. تابعته منذ الافتتاح وحتى التتويج. وتابعت تحليلات كثيرة لمعلقين رياضيين، وتابعت ردود الأفعال العربية والغربية على المونديال. سواء في الصحافة أو عبر السوشيال ميديا. لم تكن فقط الرغبة في اختبار لحظات متعة الكرة دافعي إلى ذلك، بل لمتابعة ما سيحدُث في هذا المونديال الغريب الذي حُمِّل ما لم تحمله كل المونديالات السابقة من الهوى الشخصي والعام في العالم كله.
لن أكرّر هنا ما جرى تحميله للمونديال في قطر، سواء من محبّي قطر أو من كارهيها، فكله استعيد وقيل مئات المرّات شهرين متواصلين، قبل المونديال وفي أثنائه. لكن هذا الحدث العالمي سوف يذكره التاريخ بوصفه مؤشّرا هاما على سيطرة السياسي على كل ما عداه سيطرة تامة ومحكَمة.
مبدئيا، يمكن القول إن فكرة فصل الموقف السياسي، وما يتبعه من مواقف عنصرية وشوفينية، عن أي حدثٍ رياضي أو ثقافي أو غيره، ليست واردة. نحن في عالم تحكمه الانحيازات السياسية والهوى السياسي والمصالح السياسية، مهما ادّعينا عكس هذا. والأصح أن فكرة الفصل هذه لم تكن يوما واردة أو موجودة، هي فقط كانت مغيّبة بسبب تغييب منابر الإفصاح عنها. مع زمن السوشيال ميديا والصحافة المتنوعة بات هذا مكشوفا وصريحا، ولم يعد واردا ادّعاء عكسه. فكل ما قيل ضد قطر فترة المونديال جاء من خلفية سياسية، كل العنصرية التي طفحت في الصحافة الغربية عنصرية سياسية استعلائية تلبس لبوس التقدّم الحضاري. جزء كبير مما قاله بعض العرب أيضا ضد قطر في المونديال كان له طابع الاستعلاء الحضاري الذي يغلّف الموقف السياسي. في المقابل، فإن من بعض ما قيل في المونديال في مدح قطر ينطلق أيضا من موقف سياسي مغلف باستيهامات ورغبات دينية، حملت كثيرا من الاستعلاء والعنصرية، وساعدت في إثارة اللغط والانقسامات حول المونديال.
في النهاية، ما أثير حول تنظيم قطر المونديال كان في صالحه، وفي صالح هذه الرياضة الغرائبية التي تجمع العالم كله. أو ليس غرائبيا أن تقرأ لكثيرين شتائم في قطر واتهامات لها وتشكيكا في قدرتها على تنظيم المونديال. ومع ذلك تجدهم تابعوا المونديال، وشجّعوا المنتخبات التي يحبّون، واحتفلوا بانتصار هدا المنتخب أو ذاك، من دون أن يعترضوا على لحظة تنظيمية واحدة، ومن دون أن يتوقفوا عن الشتم.