تلك المباراة: سجل أنا عربي
لم تكن القصة، فقط، ساعتين وربع الساعة من اشتعال تلك الرقعة الخضراء الساحرة تحت أقدام 29 لاعبًا (إجمالي من شاركوا) من الفريقين العربيين، المغرب والجزائر..
ولم تكن المسألة مواجهةً عربيةً في كرة القدم، تضع الكرة العربية ندًا لندّ مع كبار الكرة العالمية، في أميركا اللاتينية وأوروبا، كما لم تكن فقط ليلةً رياضيةً ستأخذ مكانها البارز في تاريخ الرياضة العربية.. فقط.
كانت قبل ذلك كله وبعده، عرسًا حضاريًا وثقافيًا وأخلاقيًا عربيًا، حتى وإن كان عنوان اللقاء رياضيًا كرويًا، تألقت فيه الذات العربية وأظهرت رقيًا وتحضّرًا ونبوغًا أذهلنا جميعًا، وأعاد لنا الثقة في أننا أصحاب رصيد حضاري وثقافي حقيقي، يكفي لتعليم الدنيا كلها معاني التنافس الشريف.
أقيمت مباراة المغرب والجزائر في توقيتٍ تشهد معه العلاقات السياسية الرسمية بين البلدين الشقيقين، الجارين المتداخلين جغرافيًا، أسوأ مراحلها، إلى الحدّ الذي دقت معه طبول الحرب العسكرية بعنف أثار موجات من القلق والرعب من اندلاع القتال.
كان التخوّف أن تنعكس هذه الحالة من الجنون السياسي على المباراة المصيرية في إطار كأس العرب بالدوحة، الأمر الذي أعاد إلى الذاكرة كوابيس الحرب الكروية بين مصر والجزائر لمناسبة اللقاء المصيري للتأهل إلى كأس العالم 2010، وهو اللقاء الذي شهد ثلاث مباريات، واحدة في الجزائر والثانية في مصر، والثالثة، الفاصلة، في أم درمان بالسودان، والتي انتهت بتأهل الجزائر، وسقوط النظامين السياسيين، معًا، في مستنقع معركةٍ سياسيةٍ، جرى تصديرها إلى جمهور البلدين، وأنتجت حالةً من التعصب الكريه، لم تخف حدّته إلا مع الربيع العربي، بعد ذلك بنحو عامين، مع انتفاضة الشعوب العربية ضد الأنظمة التي كانت تستثمر في التعصب الرياضي للتغطية على الفساد السياسي والخراب الاقتصادي.
أتذكّر في ذلك الوقت أنه تم شحن كل الأجهزة السياسية والإعلامية والرياضية واستنفارها، على الجانبين، كما وصل الأمر إلى استدعاء فقهاء السلطان ومطربيه ومغنياته للحضور بفتاوى وآراء تفاقم العداء بين الجماهير، لتحويل المواجهة إلى معركةٍ مصيريةٍ طاحنة أسوأ مما تحتفظ به كتب التاريخ عن حروب العصر الجاهلي، داحس والغبراء والبسوس، وغيرهما من معارك دارت على نحوٍ أشرف بكثير مما أراده السياسيون الرسميون.
مما كتبت وقتها، قبل "معركة أم درمان" إن مؤشّر الجنون والعبث ارتفع إلى أعلى نقطة قبل ساعات قلائل من انطلاق المواجهة الفاصلة بين لاعبي مصر والجزائر على أرض السودان، رأينا التشنج قد بلغ ذروته، فيما هبّت رياح التكفير بكل شيء من كل جانب، واندلعت الفاشية والشوفينية في أعنف صورها في الخطاب الإعلامي بين أطراف هنا وهناك.
وعلى الرغم من كل تلك الأجواء المحتقنة بالتعصّب الجاهلي، فإنه بوضع ما كان بين الجزائر ومصر في 2009 أمام الكائن بين الجزائر والمغرب، على صعيد العلاقات السياسية الرسمية، فإن الأخير يبدو أسوأ وأخطر، بمراحل، مما كان قبل 12 عامًا، ومن ثم كان القلق من مباراة أول من أمس في الدوحة يطارد كل عربي، غير أن لاعبي الفريقين وجماهيرهما قدموا درسًا بليغًا في معاني الأخوّة والتحضر والتنافس الشريف، ينبغي أن يتعلم منه الساسة، لعلهم يستطيعون إدارة الخلافات والمواجهات السياسية على النحو الذي تدير به جماهير الرياضة مشاعرها ورغباتها في الانتصار خلال المنافسات الرياضية.
أجواء اللعب الملتهبة أكثر من ساعتين لم تتلوّث ولو ثانية واحدة بعوادم السياسة المنبعثة من قصور الحكم، الأمر الذي انعكس على طقوس التشجيع في ملعب "الثمامة" بالدوحة، فكان الأداء في المدرّجات لا يقل روعةً وإبداعًا عن الأداء داخل المستطيل الأخضر، وقد رأينا ذلك في لوحاتٍ شعبيةٍ جميلةٍ تعانقت فيها الرايات المغربية والجزائرية، كما امتدّت هذه الحالة إلى تصريحات اللاعبين والمدرّبين عقب المباراة، وأيضًا إلى وسائل إعلام البلدين، التي احتفظت برصانتها واحترامها ذاتها في تغطية الحدث الرياضي التاريخي، فلم تنزلق إلى مستنقعات العنصرية والشوفينية والمكايدة السياسية.
شكرًا للمغرب والجزائر، جماهير ولاعبين ومدربين، على هذه الليلة الرياضية التي تجدّد لنا الفخر بأننا ننتمي إلى وطنٍ عربي كبيرٍ ومتحضّر، رغم أنف طغاته وجلاديه.