تلك المعارك بين لبنان وإسرائيل
بدا واضحا أن الرئيس بايدن يسعى إلى تخفيف التوتّر في غزّة، ويحاول ثني إسرائيل عن عزمها المضي بعيداً في حربها. وبالنظر إلى التكاليف التي أصبحت فادحة، يبدو أن نتنياهو يتعرّض لضغط سياسي وإعلامي كبيرَيْن، من دون أن يتوقف عن إشعال مزيد من الحرائق، وهذه المرّة يرغب بجدّية في التصعيد على جبهة الشمال مع حزب الله، حيث بدأ التوتّر هناك مبكّراً بشكل متزامن مع العملية العسكرية في غزّة، واستمرّ التراشق على جانبي الحدود بتكرارٍ شبه يومي، مع تزايد حدّته تدريجياً، حيث شمل، إضافة إلى الغارات الجوية والصواريخ والمدافع ذات المدى البعيد، اغتيالاتٍ نوعيةً تعكس رغبة إسرائيلية في استئصال الخطر الحقيقي المُحدق من جهة حزب الله، الذي أجبرت هجماته المتكرّرة عشرات الآلاف من قاطني مستوطنات الشمال على النزوح إلى الداخل، ولطالما حرصت إسرائيل على عدم الوقوف متفرّجة على الأخطار الآتية من الشمال. وقد تعوّدت الرد بقوة على كل التهديدات، منذ كانت من منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل مقاتلة أخرى، وصولا إلى هذه اللحظة، حيث يسيطر حزب الله على كل شيء يتحرّك في الجنوب.
منذ ستينيات القرن الماضي عندما بدأ نشاط منظمّة التحرير في لبنان، خاضت إسرائيل معها مواجهات مباشرة تخلّلها دخول عميق وصل، في بعض الأحيان، إلى احتلال أجزاء من العاصمة بيروت نفسها. وفي مواجهات عام 1978، عبرت إسرائيل الحدود بقواتها وصولاً إلى نهر الليطاني، دفعت خلال المعركة القوات المقاومة الفلسطينية إلى ما وراء النهر. نتج عن العملية قرار للأمم المتحدة رقم 426 يقضي بإنشاء قوات أممية تتموضع في الجنوب (يونيفيل)، بالإضافة إلى وجود جيش لبنان الجنوبي المتعامل مع إسرائيل على شريط عرضه عشرة كيلومترات. جاءت المعركة بعد هجمات متكرّرة من المقاومة الفلسطينية وردّاً مباشراً على العملية التي قادتها دلال المغربي في مارس/ آذار 1978، وأدركت إسرائيل حينها أنها لم تقضِ تماما على عدوها في الشمال، فأوجدت لهذا الغرض رأس جسر لها، من مسمّياته قوات الرائد سعد حداد.
ساهمت ملابسات الحرب اللبنانية والوجود السوري هناك بتأجيج المنطقة أكثر، فقررت إسرائيل مجدّدا عبور الحدود بقواتها العسكرية في 1982، ولكن بمجاميع أكبر وقوة عسكرية أكثر ضخامة. وكان هدف عملياتها التخلص النهائي من منظمّة التحرير في لبنان، وإخراج الجيش السوري، وإحلال نظام سياسي موالٍ لها. تقدّم الجيش الإسرائيلي وحاصر بيروت، وطلبت إسرائيل ثمنا لفكّ الحصار خروج منظمة التحرير من لبنان كله، فخرجت المنظمّة مخليةً مكانها لمنظمات مقاومة أخرى كان لها شكلٌ إسلامي. في سنة خروج المنظمّة، تأسس حزب الله الذي شارك في حركة مواجهة ضد إسرائيل، ما جعلها تتراجع بالتدريج وصولا إلى إخلائها الشريط الجنوبي عام 2000، وهرب أعضاء من جيش لبنان الجنوبي إلى إسرائيل، ونزح عديدون من أفراده إلى دول غربية، ووجد حزب الله نفسه وجها لوجه مع إسرائيل، التي عادت في 2006 إلى الهجوم، وانتهت العملية بالاتفاق على عودة قوات حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني.
تنوّع شكل التدخل العسكري الإسرائيلي في جنوب لبنان من هجوم محدود إلى تداخل واسع إلى قصف جوي مركّز وكثيف، والهدف هو التخلّص من عدو يعمل عن قرب. ويكاد شمال إسرائيل يكون متاحا في أي وقت لأي هجوم شبيه باالذي نفذته حركة حماس (والجهاد الإسلامي) على غلاف غزّة في موقعة 7 أكتوبر. ورغم الموقف الدولي من إسرائيل، إلا أن الهجوم على جنوب لبنان يقع ضمن حسابات قادتها، ويبقى أن يختار العسكريون أسلوب الهجوم، والهدف الأساسي لم يختلف بالطبع، وهو اقتلاع العدو من الجهة الأخرى، وقد ترى إسرائيل المناخ مناسباً لتحقيق ما عجزت عنه في 1982 بتنصيب رئيس موال لها، خصوصاً أن لبنان يعاني من خواء سياسي في كرسي الرئاسة منذ غادر ميشال عون قصر بعبدا.