تلك الهوية التي تجمعنا: جدل لغة التعليم في الجزائر
كثُر الجدل في الجزائر مع اتّخاذ الحكومة قرارها إدراج اللُّغة الإنكليزية، بدلا عن الفرنسية، انطلاقا من السنة الدراسية المقبلة، في التّعليم الابتدائي، في سابقة سيكون لها ما بعدها باعتبارها خطوة استراتيجية تتضمّن، من ناحية، تغيير طبيعة التّعليم ومسار التكوين في أطواره، لأوّل مرّة، منذ الاستقلال، وتعلنها كفانا تبعيّة للغة المستدمر، من ناحية أخرى. فهل يتعلق الأمر بقرار تربوي صرف، أم أنّ القرار مجرّد مناكفة سياسية بسبب تعنُّت باريس عن الاستجابة لكلّ المطالب الجزائرية بشأن الذّاكرة ومحاولة لعب دور الوصي في علاقات الجزائر مع الاتّحاد الأوروبي أو شركاء آخرين؟
تحتاج الرؤية العميقة لهذه القضية إلى زوايا نظر تنطلق من الهوية الجامعة ومتفرّعاتها، في الجزائر، ثمّ تعرّج على اللُّغة وماهية دورها في التّعليم باعتبارها أداة اتصالية وحاملة للهوية، وصولا إلى طبيعة الجدل الخاص بموضوع المقالة، وهو جدل لغة التعليم في الجزائر بين السّياسة والتّربية.
سبق التّأكيد، في مقالات سابقة للكاتب في "العربي الجديد"، بشأن الهويّة في الجزائر، أنّ الأمر يتعلّق بروح وركيزتين، على الترتيب، الإسلام والعربية - الأمازيغية، لتكون تلك الأسس الهوية الجامعة، وتكون متفرعاتها، ومنها الأمازيغية بمختلف أشكالها، عبر الجزائر، جزءا من تلك الهويّات الفرعية ذات الخصوصية لكل منطقةٍ من مناطق الجزائر، في إطار ثوابث يعرفها الجزائريون ويدينون بها، جميعُهم، إلا من شذ، والشّاذ يُحفظ ولا يُقاس عليه. تشكّل تلك الهويّة الجامعة بالرّكائز الثّلاث مُضافا إليها، بتجربة التّاريخ والجغرافيا، الانتماء للمذهب المالكي والمغرب العربي الكبير، العلم الوطني، تاريخ البلاد المجيد بكلّ مضامينه، مكانة الشُّهداء، العداء لفرنسا، الحرب التّحريرية الكبرى وبيان أوّل نوفمبر (1954)، وهو النّص المؤسّس للدّولة الجزائرية الحديثة التّي كان أول ممثّل لها، عبر التّاريخ، رئيسا، بمقوّمات الدّولة القومية الحديثة، الأمير عبد القادر الجزائري الذي كان له جيش، عملة، مصانع لصنع السلاح، مكتبات متنقّلة ومناطق سيطر عليها (تشكّلت، على مرّ تاريخ طويل، وتتضمّن المناطق التي هي حدود الجزائر الحديثة، من جهاتها الأربع) تمثّل، في عُرف الجغرافيا الحديثة، حدود ما بات يُعرف، في العلاقات الدُّولية، بدولة الجزائر، المستقلّة في 1962.
استمرّ وجود الفرنسية في دواليب الاقتصاد، وفي عمق الإدارة، بدون أن يكون لذلك تداعيات على رمزيّة التّعامل الفرنسي مع ملفّ الذّاكرة
جاء ذلك التّأكيد بسبب أن صفحات كثيرة، على وسائل التواصل الاجتماعي، ما زالت تبثّ سمومها في العقل الجزائري، زاعمة أنّ الإشكالات ذات الصلة بالهوية الممزّقة للبلاد محورها قوم يُطلقون عليهم "القبايل" (وأوصاف أخرى ليس هذا مكان التّشهير بها والإشهار لها)، في حين أنّ الأمر لا يتعدّى مجرّد ثُلّة من النّاس، لا يعترف بهم أحد من أبناء المنطقة، وهم لا يحملون، كما يُقال، فكرة يؤمن بها كلُّ أبناء المنطقة، بل لهم مشروع فاشل ما فتئ "القبايل" يعبّرون عن رفضهم له منذ لدن التّاريخ المذكور، هذا، بكلّ ما يحمل ذلك من مقوّمات الوحدة في إطار تلك الثّوابت ومكوّنات الهويّة الجامعة، من دون أن يكون إغفال ما للخصوصيّة، ذات العلاقة بالشّعر، القصّة، الفولكلور، الأغنية والثّقافة الأمازيغية، بأشكالها كافة، لا تأثير له على تلك الهويّة الجامعة ومتفرّعاتها وما تعلّق بها من ثوابت مردفة للجزائري في هويته.
نعرّج، في المحور الثّاني، على اللُّغة وأهميتها للاتّصال والتّعليم، وهل العربية أولى أم لغة أخرى للتّعليم والتربية لأبنائنا، حيث يمكن القول إنّ القرار الحكومي بإقرار الإنكليزية، لغة أجنبية أولى، في الطّور الابتدائي، قرار سيادي يصنع القطيعة مع تقليد جرى العمل به، منذ الاستقلال، بل جرى إقرار، لأعوام، أولوية التّعليم باللُّغة الفرنسية للأطوار الثّلاثة، ما رفع المستوى وأخرج، للجزائر، أجيالا من طلبة ذوي مستوى مرتفع، هم، الآن، موظفون رفيعون في الإدارات الجزائرية، بيد أنّ هذا التّقليد كان مسارا لتوليد أيديولوجية رفعت من قيمة الفرنسية من مرتبة الفرانكفونية، أي أداة تواصل وتعليم بلغة إلى فرانكوفيلية، أي محبّة كل ما هو فرنسي والعيش على الطريقة الفرنسية، ما أدى إلى تنافر بل قطيعة بين فئات من المجتمع، أضحت ترى أن القطيعة مع الفرنسية هي الحل الأمثل لرمزية الارتباط بالقوة الاستيطانية والسابقة، وما تمثله وفئات أخرى كانت ترى في الارتباط باللغة الفرنسية وأبعادها الثقافية والأنثروبولوجية ارتباطا بالضفة الأخرى، وحماية لمصالحهم ومصالح فرنسا.
تحتاج الرؤية العميقة لقضية تعليم اللغة الإنكليزية في الجزائر إلى زوايا نظر تنطلق من الهوية الجامعة ومتفرّعاتها
وقد أدّى هذا التّجافي بين الفئتين إلى منع/ تعطيل/ تأجيل تطبيق قانون تعميم اللُّغة العربية أكثر من مرّة، على الرغم من أنّ التّعليم قد جرى تعريبه بالكلّية في الأطوار الثلاثة للتّعليم، إضافة إلى التّعليم العالي بالنسبة للعلوم الاجتماعية، أي أنّ الفرانكوفونية قد تراجعت لصالح العربية، سواء في التّعليم أو في الإدارة والاقتصاد، لكن الحقيقة غير ذلك، إذ استمرّ وجود الفرنسية في دواليب الاقتصاد، وفي عمق الإدارة، بدون أن يكون لذلك تداعيات على رمزيّة التّعامل الفرنسي مع ملفّ الذّاكرة. وهو ما أدّى، مع عمل جمعياتٍ كثيرة، وتقدُّم التّعليم المُعرّب في تكوين عقل جزائري جديد، إلى ميلاد، وهي بإلزامية الانتقال من تبعية الجزائر الثّقافية لفرنسا، ورمزية ذلك الوجود للفرنسية في الإدارة والاقتصاد، إلى وجوب تعميم اللغة العربية، وتغيير بوصلة التّعليم في الجزائر، بالتّخلّي عن الفرنسية لصالح لغة عالمية، حقّا، بمؤشّرات العلم والانتشار، هي الإنكليزية.
نصل إلى المحور الثّالث الذي يتمحور حول واقعية إقرار اللُّغة الإنكليزية في الطور الابتدائي، لأنّ السّياسة العامّة تتضمّن، في أُطُرها النّظرية والعملية، بعد التفكير، خطوات البرمجة والتّخطيط، إضافة إلى تجهيز الإمكانات المالية والبشرية، ثمّ التّقييم والتّقويم، فهل تمّ تجهيز ذلك كله، في أُفُق تجسيد القرار التّربوي، ونحن على بعد حوالي 45 يوما من الدُّخول المدرسي للموسم 2022 - 2023؟.
اللغة ما هي إلا أداة للتواصل، وأيّ قرار في تغيير بوصلة التعليم سيادي، لكنه يحتاج إلى تقييم وتقويم
في الحقيقة، هناك تحضير للتّطبيق لكن مع نقص، ملاحظ، في عدد المؤطّرين (أساتذة ومشرفين تربويين)، ما ألجأ الوزارة إلى إطلاق عملية واسعة لتوظيف آلاف من خرّيجي الجامعة ممن درسوا اللُّغة الإنكليزية، وهو أمر جيّد إذا جرى إرفاقه بما طالبت به نقابات التعليم من تخصيص الوقت الكافي، تحضير كل الإجراءات الأخرى، ومنها الموازنة بين المدن الكبرى والأرياف في تجهيز المدارس بالعنصر البشري الذي سيُكلّف بتدريس اللُّغة الإنكليزية، مضافا إليها، بصفة خاصّة، متابعة التطبيق الفعلي للقرار، تقييما وتقويما، وعدم مصادمته مع جودة التّعليم، بحيث تكون العملية التعليمية متكاملة في كلّ التّخصُّصات، بما يولد جيلا متعلّما، ويرفع من مستوى التّعليم بعيدا عن الرّبط بين الشّأن التّعليمي الصّرف والمناكفة السّياسية، كما رأينا ذلك في الإعلام ووسائل التّواصل الاجتماعي.
تلك هي الأسس العلمية، التّربوية والهوياتية لتجسيد القرار التّربوي - التّعليمي بعيدا عن المهاترات التي حاول بعضهم ربط القرار بها، حيث إن التمكّن من لغة، أيّا كانت، حتى الفرنسية، التي هي، حقّا، غنيمة حرب، مرادفة للقدرة على مناكفة العدو والتصادم معه بلغته ومقاربة تفكيره، وهو ما قام به محمّد ديب، مالك بن نبي، آسيا جبار، مولود معمري، وغيرهم ممن كتب بلغة المستدمر وفضح طبيعة رسالته الحضارية في الجزائر المتضمّنة القتل، التّجويع والتجهيل، ليس إلا.
أمّا الهوية فهي شأن ثقافي وحياتي، قام بالاهتمام به رجال من حجم عبد الحميد بن باديس، البشير الإبراهيمي، العربي التبسي، الذين واجهوا احتفالات فرنسا بمرور قرن على بداية "الرّسالة الحضارية" الإجرامية في الجزائر إلى إنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التّي ردّت للجزائر هويّتها بذلك العمق الذي ذكرناه، وأدّى، بعد أقلّ من 25 سنة، إلى اندلاع الثّورة التّحريرية الكُبرى التي أوصلت البلاد إلى الاستقلال.
تلك هي، أيضا، الأسس التي يمكن مقاربة قرار تربوي بها، وليست تلك الجدالات التي تتعرّض إلى جزء من هوية البلاد بالنقد أو تحميلها مآسي الجزائر، فارغة من أي مضمون، لأن البلاد كل متكامل، واللغة ما هي إلا أداة للتواصل، وأيّ قرار في تغيير بوصلة التعليم سيادي، لكنه يحتاج إلى تقييم وتقويم، ليكون متوافقا مع أسس السّياسة العامة، وليس إلباس أي قرار يتّخذ اللّبوس السياسي، واعتباره إمّا قرارا تاريخيا أو تحميل من يقاربه بالأسس العلمية والعملية وزر الخيانة، أو التّبعية لجهة ما أو العمل وفق أجندة سياسية ما.