تمدّهم بالنفط ويتنكّرون لها .. مأساة قرية ليبية
"بنت بية" قرية ليبية بائسة تنتسب لبلدٍ فيه مصادر الثراء كلها، تقع في جنوب غرب، ولكن أبناءها لم يشعروا يوما بانتسابهم لهذا البلد الذي يبدو أنه لم يتنكّر لهم فحسب، بل تنكر لكل الإقليم الذي تتوسّطه هذه القرية، الأمر الذي جعل المناطق الواقعة فيه تحت سيطرة عصابات التهريب ومافيات الإجرام العابرة للصحراء، فهاجر من سكّانها من استطاع إلى ذلك سبيلا. أما من حالت ظروفه دون ذلك، فبقى صابرا محتسبا، يترقّب أن تنظر إليه إحدى الحكومات بإحسان.
"بنت بية" قرية فقيرة يمتهن غالبية سكانها الزراعة، وتمد العاصمة (طرابلس)، التي تتصارع عليها الحكومات، بالتمور والبصل والشعير، ويتلذّذ مسؤولون كثيرون ببطيخها الأحمر (الدلاح) الذي تشتهر به، وقليلون منهم يعرف أنها مصدره، وإذا عرفها أو سمع باسمها، فلا يعرف موقعها على خريطة بلدٍ لا يهمه من أمرها سوى كمية النفط فيها والعائدات المتوقعة منه.
تعرف "بنت بية" جيدا أن وجود مندوب عن إقليمها لدى الحكومات المتتالية، شرقها وغربها، لم يكن إلا لتكتمل الصورة الخارجية لهذه الحكومات، لتقنع العالم الخارجي، قبل أن تقنع سكان هذا المناطق بأنها حكومة تمثل كل الأقاليم الجغرافية. وتعرف هذه القرية النائية، ويعرف الإقليم بكل مكوناته، أن هذا المندوب لم ولن يفكّر يوما في نقل معاناة السكان، ومحنهم وهوانهم على الناس، بل وبمجرّد وصوله إلى حكومة العاصمة، ينصبّ تركيزه على حل مشكلاته الشخصية ومشكلات عائلته وأقاربه، ويسعى إلى تأمين حياته، وينسى السكّان الذين يستمرون في انتظارهم المجهول، ويمنّون أنفسهم بغدٍ لم يطل بعد.
أهل "بنت بية" شدّهم الحنين إلى بضعة لترات من وقود حُرموا منه بسعره الرسمي، المدعوم من قوتهم، سنين طويلة، فتجمعوا حول صهريج وقود تعطّلت الشاحنة الساحبة له على تخوم تلك القرية، بسبب تهالك طرقها وبنيتها التحتية، فانفجر الصهريج وأكلت النيران أكثر من 60 شخصا، منهم من فارق الحياة، ومنهم من سيفارقها من شدة إصابته، ومن ستُكتب له الحياة فقد يعيش مشوّها.
انفجر صهريج الوقود، فأشعل غضب سكان القرية ضد حكومتي الشرق والغرب، المتصارعتين على ثرواتٍ يوجد أكثر من ثلتيها تحت أقدامهم في الجنوب. وبدلا من تنمية مكانية مفترضة في مناطق هذه الثروات ومصدرها، حرموا سكّانها من أبسط مقوّمات الحياة، فانتشرت الجريمة، وارتفعت معدّلات البطالة، وتعرّضت المنطقة بكاملها إلى تحوّل ديمغرافي نتيجة استهدافهم من عدة دول مجاورة، عملت على تهجير السكان الأصليين، وإحلال وافدين من سكانها، ساعدهم في ذلك الامتداد القبلي لبعض القبائل، مثل قبيلة التبّو الممتدّة بين تشاد والنيجر وليبيا. ولم تتمكّن سبع حكوماتٍ تداولت على "طريق السكّة" من إيجاد مخرج أو علاج لهذه المشكلات المتراكمة، والتي رسمت خرائط اقتصادية وجيوسياسية جديدة، ورسخت قاعدة مفادها أنه، ومع كل توغّل في عمق البلاد، يزداد الغوص في خريطة الفقر والبطالة وارتفاع معدّل الجريمة، وتبرز مظاهر التهميش، وتزيد قسوة الطبيعة من هذه المعاناة، حتى أصبح ليبيون كثيرون يتندّرون "بأن سكان تلك المناطق سيدخلون الجنة من دون حساب، لأن حياتهم الدنيا كانت شبيهة بجهنم".
اعتاد سكان "بنت بية" على سلبية الحكومات وعجز المسؤولين
تنادت مكوّنات الجنوب الاجتماعية والسياسية والعسكرية، لتصرخ في وجه المسؤولين في الشرق والغرب، والذين صرفوا المليارات، من دون أن يُبنى حجر أو يُشقّ طريق أو تُوّمن حدود أو يُوفر كتاب مدرسي أو تُحل أيٌّ من مشكلات الإقليم. وتفنّن الجميع في شعاراتٍ لم تترجَم يوما إلى أمر واقع، صرخة غضب لم يطلبوا فيها المستحيل، لم يتطلّعوا إلى تعيينهم في السفارات، ولم ينادوا يوما بمساواتهم بالمليشيات التي تخيف المسؤولين، فيُغدقون عليها الملايين وهي تردّد "هل من مزيد"، ولا يحلمون بابتعاث أبنائهم إلى الدراسة في الخارج، كأبناء المسؤولين ومن يدور في فلكهم. يطالبون فقط بحياة كريمة في حدّها الأدنى. يصرخون وهم يدركون بأن لا حياة لمن ينادون، ولكن لا يملكون سوى هذا السلاح في وجوه مسؤولين لا يجيدون سوى الرقص على الجراح، يصرخون وهم على درايةٍ كاملةٍ بأن حكومة عجزت عن توفير أمصالٍ لسم العقارب في مراكزهم الصحية، وتركت المصابين يلجأون إلى التداوي الشعبي لمواجهة خطرٍ آخر يعانيه السكان، لن تكون قادرةً على تزويد هذه المراكز بمعدّات وأدوية تجعلها قادرةً على التعامل مع حروق بهذه الخطورة.
اعتاد سكان "بنت بية" على سلبية الحكومات وعجز المسؤولين، ولم يشكّل ذلك مفاجأة لهم، ولكن ما أثار سخطهم وحنقهم هو متاجرة الجميع بهذه المأساة ومحاولة الاستثمار فيها، فحكومة الوحدة الوطنية أعلنت أن تشكيلات مسلحة داعمة لمجلس النواب منعت طائراتها من الهبوط، وأن طائرة كانت تحمل وزيرة الخارجية، نجلاء المنقوش، لم يمنح لها الإذن بالهبوط أيضا، وأضافت، في تصريحاتها على لسان أكثر من مسؤول، أن هذه المليشيات سمحت بهبوط طائرات الإسعاف التابعة للمنطقة الشرقية فقط، والتي تأخرت ساعاتٍ، ما تسبب في فقدان أشخاص كان يمكن إنقاذهم. أما حكومة الشرق، برئاسة فتحي باشاغا، فلم تترك هذه الفرصة تفوتها، من دون أن تستغلها في التحريض ضد حكومة عبد الحميد الدبيبة، محملة إياها المسؤولية الكاملة في معاناة الجنوب، متهمة عناصر هذه الحكومة بفسادٍ لم يسبق له مثيل حسب تصريحاتها.
مآسي ليبيا تتعدّد، وفواجعها تتكرّر في معظم مدنها وقراها، والجنوب ليس استثناء، ولكن عوامل كثيرة تجعل معاناة هذا الإقليم الأشد قسوة
حاولت الحكومتان التكسّب السياسي والسمسرة الفجّة في أرواح بشر ليس لهم ذنب سوى وجودهم في بلدٍ يمدّونه بالثروات، ويقابلهم بالجحود والنكران، وإن قدرهم ابتلاهم بمسؤولين اكتفوا بالتصريحات الجوفاء والتهم التي يلقيها كل طرفٍ على الآخر. واكتفي الحريص منهم على التقاط الصور مع المصابين، والمشاركة بنقل الكارثة مباشرة من خلال صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، ردّ فعل على ما حصل.
خلاصة القول إن مآسي ليبيا تتعدّد، وفواجعها تتكرّر في معظم مدنها وقراها، والجنوب ليس استثناء، ولكن عوامل كثيرة تجعل معاناة هذا الإقليم الأشد قسوة في بلدٍ تبحث فيه حكوماته عن الشرعية من الخارج، ويستجدي متصدّرو المشهد فيها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية، علها تمنّ عليهم بتصريح قد يفسّر بأنه اعتراف صريح أو ضمني بهم دون غيرهم، وضحايا "بنت بية" فليسوا على لائحة اهتمامهم. بالتأكيد، قد ينجح هذا الطرف أو ذلك بحكم البلد بقوة السلاح أو بمناصرة الأجنبي، ولكن أرواح الضحايا وصرخات أسرهم وأبنائهم ستظل لعنة تطاردهم وتقضّ مضاجعهم، وإن تجاهلوا هذه الصرخات وأهملوا هذه المآسي، فإن أصحابها على ثقةٍ في أن عدالة الله سوف تقتصّ من كل مسؤولٍ جعل بلدا غنيا يعجز عن توفير مرهم أو مسكّن يخفّف آلام المرضى والمصابين، في الوقت التي تصرف المليارات على رحلاتهم في طائرات خاصة، كما أشارت إلى ذلك تقارير الرقابة وديوان المحاسبة أخيرا.