توقعات في المشهد العراقي
سيطر أتباع التيار الصدري على مبنى مجلس النواب العراقي في المنطقة الخضراء بعد أن "فقدت" تلك المنطقة، وبإرادة حكومية، صفة "شديدة التحصين"، وشاهد العالم عبر شاشات الفضائيات كيف تحوّلت باحة المجلس وقاعاته ومرافقه إلى صالات عرض لأهازيج المتظاهرين وهتافاتهم، وكذلك لإقامة مراسيم العزاء الحسينية الخاصة بشهر محرم الحرام. أما مخارجه فأقيمت فيها محلات تقديم الطعام المعد خارج المنطقة الخضراء، وكذلك تقديم زجاجات الماء البارد، كما تقاطر باعة متجولون كثيرون وكل من يريد تسجيل هذه اللحظات تاريخا شخصيا له يرتبط بحرمة المنطقة الخضراء وتفاصيل الترف فيها، مقارنةً بحالة الشعب العراقي المزرية خارج أسوار هذه المنطقة، من حيث فقدان الخدمات وفرص العيش الكريم والبطالة وانعدام الأمن بشكل عام.
أجّجت رسالة مقتدى الصدر التي وصف فيها عملية سيطرتهم على مبنى مجلس النواب ومناطق أخرى من المنطقة الخضراء، بأنها "ثورة عفوية سلمية"، وأنها "فرصة ذهبية لكل من اكتوى من الشعب بنار الظلم والإرهاب والفساد والاحتلال والتبعية"، أجّجت مشاعر أتباعه ومخاوف أعدائه، وبلغت رسالة الصدر أعلى درجات الوضوح في سيناريو تحرّك أنصاره، حتى أن مراقبين كثيرين اعتبروها البيان "رقم واحد"، وأن العمل قد بدأ "لتغيير جذري للنظام السياسي والدستور وتبديد الفساد والمحاصصة الطائفية"، وأن البديل سيكون "عراقاً شامخاً بين الأمم، وليس تابعاً يتحكم فيه الفاسدون وتحرّكه أيادٍ خارجية".
تراقب الدول والإقليم تطورات الأحداث، وقدرات أطراف النزاع على إشعال فتيل الصدام والاستمرار فيه
كان رد "الإطار التنسيقي" قوياً على رسالة (بيان) الصدر، ووصفها بـ "المحاولة الانقلابية، وأن أي مشروع لتعديل الدستور خارج الأطر الدستورية هو تهديد للسلم الأهلي وسلطة القانون، وأن التصعيد الذي يقوم به التيار الصدري وصل حد الدعوة للانقلاب على الشعب والدولة وعلى العملية السياسية والانتخابات والشرعية الدستورية التي حظيت بدعم جماهيري ودولي، وصوت عليها الشعب بأغلبيته المطلقة". وعلى ضوء هذا البيان الشديد، قررت قوى الإطار التنسيقي دعوة أنصارها إلى التظاهر، ليس ضد التيار الصدري الموجود داخل المنطقة الخضراء فحسب، بل ضد رئيس مجلس الوزراء، مصطفى الكاظمي، ووزرائه وبعض القيادات الأمنية هناك، لتهاونهم في منع المتظاهرين الصدريين من دخول المنطقة.
يسعى مقتدى الصدر، وبحسب مقرّبين منه، وبشكل فاعل، إلى إحداث تعديل جوهري في مسار العملية السياسية، بما لا يعني الانقلاب على السلطة، وفق عقد سياسي جديد يتماشى مع الدستور والقانون، ويمكِّن الشعب من اختيار ممثليه في البرلمان والحكومة. كذلك محاسبة كل من اتهم بالفساد وفق القانون، ومن دون التدخل بأعمال القضاء، مع تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات واسترجاع الأموال المنهوبة من القوى السياسية والزعماء طوال السنوات السابقة. ويعتبر عدد غير قليل من سياسيي "الإطار" هذه المطالب أنها قد تُفقدهم فرص العودة إلى حكم البلاد، أو حتى البقاء في العملية السياسية، ما يستدعي مواجهتها من خلال دعوات جماهيرهم إلى التظاهر ودخول المنطقة الخضراء، أو الإحاطة بها، بما يفضي إلى تسببها بأولى الشرارات المحتملة للاصطدام بينها وبين قوى التيار، وهو يعني، بالضرورة، بداية حرب متعدّدة الأشكال، وربما تشهد دخول قوات الحشد الشعبي المحسوم الولاء لزعامات مهمة في الإطار.
تحوّلت الحكومة العراقية إلى "مشاهد"، أو، في أحسن أحوالها، "ناصح" باللجوء إلى الحوار السياسي
مع اشتداد الأزمة في العراق، وتحوّل الحكومة العراقية إلى "مشاهد"، أو، في أحسن أحوالها، إلى "ناصح" باللجوء إلى الحوار السياسي بين كل الأطراف، تراقب الدول والإقليم تطورات الأحداث، وقدرات أطراف النزاع على إشعال فتيل الصدام والاستمرار فيه، فالولايات المتحدة وإيران على رأس المهتمين والمتابعين تفصيليا مجريات الأمور هناك. ويؤكد ذلك ما صدر من السفارة الأميركية في بغداد والخارجية الأميركية في واشنطن من بيانات ومناشدات، تدل على متابعة حثيثة لكل مجريات الأزمة، كما أن وجود "قائد فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال إسماعيل قاآني، في العراق واجتماعاته المتكرّرة مع قوى الإطار التنسيقي، يدلّ بوضوح على أن إيران تقف بوضوح إلي جانب هذه القوى، بما يعني أيضاً أن حرسها الثوري سوف يكون داعماً لها في حال تدهور الأمور إلى اقتتال عراقي داخلي.
يتذكّر العراقيون دائماً مفردة رئيس وزراء العراق الأسبق، نوري المالكي، "ما نِنطيها"، ويقصد حكم العراق، فهل سيتمكّن المالكي فعلاً، وبعد أن نجح غريمه مقتدى الصدر في استمالة كثيرين من أبناء الشعب العراقي لصالح دعواته في الإصلاح، وتغيير نظام الحكم السياسي ودستور البلاد، هل سيتمكّن المالكي من عدم التفريط في السلطات المطلقة لإدارة شؤون العراق، أم أن شعب العراق بدأ قصة إثبات إرادته، وأنه لن "ينطيها" من جديد لمن أوغل فساداً وتبعيةً وخراباً في العراق وشعبه.