توماس فريدمان والحيوانات في وصف منطقتنا
ليس ثمّة صحافي في العالم مرحّب به في الشرق الأوسط أكثر من توماس فريدمان، الكاتب في "نيويورك تايمز"، إذ يكفيه أن يحجز في أي رحلة إلى المنطقة حتى يصبح جدول أعماله في الدولة التي سيهبط فيها مزدحماً بلقاءات مع كبار مسؤوليها، وغالباً ما يلتقيه زعماء تلك الدول، أو الأقل درجة واحدة فقط منهم، ليقفل راجعاً إلى بلاده، ويكتب ما يشاء استناداً إلى المصادر الرفيعة التي التقاها.
وفي سجلّه أنه كتب المسوّدة الأولى للمبادرة العربية للسلام التي اقترحها ولي العهد السعودي في حينه عبد الله بن عبد العزيز على القمّة العربية في بيروت عام 2002، وتقوم على دولة للفلسطينيين مقابل سلام مع الإقليم بأسره، وهي القمّة نفسها التي ألغت كلمة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في جلستها الافتتاحية، ما اضطرّه إلى إلقائها عبر قناة الجزيرة.
على أن كثرة تكرّر فريدمان على المنطقة ومعرفته الوثيقة بزعمائها لم تغيّر من الغطرسة المكتومة في شخصيته، ونظرته الاستعلائية والاستشراقية تجاه المنطقة وشعوبها، وهو ما ظهر في مقال له نُشر أخيراً، كتب فيه أنه يفكر في الشرق الأوسط أحياناً من خلال مشاهدته "سي أن أن"، لكنه في أوقات أخرى يفضّل التفكير في هذه المنطقة من خلال قناة "كوكب الحيوانات"؛ وعليه فإن هناك قردة ودبابير وعناكب تتصارع، وأسداً ما زال ملك هذه الغابة، لكنّه عجوزٌ ومتعب، ما يجعل بقية الحيوانات المفترسة لا تخشى اختبار قوته.
للوهلة الأولى، تبدو تشبيهات فريدمان صحيحة، لكنّها غير بريئة من الأساس، إذ تُحيل إلى حقل دلالاتٍ تزدري المنطقة وزعمائها وشعوبها وطبيعة الصراعات فيها، فهي أقلّ من أن تنتمي إلى عالم الإنسان والاجتماع المعاصر، ولا يمكن فهمها إلا بمقارنتها بعالم الحيوان: إيران نوعٌ ضارٌّ من الدبابير، لبنان وسورية واليمن والعراق مجرّد يرقات يضع الدبور بيضه فيها، فتفقس من خلال أكلها هذه الحواضن من الداخل. "حماس" عناكب الباب المسحور التي تقفز بسرعة كبيرة جداً للانقضاض على فريستها. نتنياهو (أضاف نتنياهو فقط وليس إسرائيل إلى عالم الحيوانات) من قرود ليمور السيفاكا التي تمشي جانبياً على قدمين اثنتين، وتُكثِر من التلويح بأذرعها إلى الأسفل والأعلى، بما يجعلها تبدو كأنها تتحرّك أكثر مما هي بالفعل.
والحال هذه، نحن أمام قاموس حيواني، وربما أمام نسخة حديثة لكن مشوّهة لكليلة ودمنة لابن المقفع، مع رجحان الكفّة لصالح الأخير الذي دفعه الخوف، لا الغطرسة والاستعلاء، إلى ترجمة أو إعادة إنتاج قصص صراعات الحكم على ألسنة الحيوانات خوفاً من سوء الفهم أو التعرّض للعقاب، على خلاف فريدمان الذي لا يخشى أي حاكمٍ التقاه في المنطقة وحاوره وانتقده او سوّقه، لأسبابٍ تتعلق بحاجة هؤلاء الحكّام إلى ما يتوهمونه منبراً خلفياً لإيصال صوتهم إلى صانع القرار في واشنطن، تملّقاً أو رهاناً على تحسين صورتهم، لا لدى شعوبهم، بل لدى من لا يتورع عن تشبيههم بالحيوانات والحشرات المؤذية عندما يقرّر ويشاء.
ليس هذا شأناً يختص به فريدمان وحده في مقاربة المنطقة وشعوبها. هناك وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف عالانت، الذي وصف الفلسطينيين بالحيوانات البشرية، ومن قبله إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، الذي وصف إسرائيل بالفيلا التي تقع وسط الغابة، والممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الذي وصف أوروبا كلها بالحديقة وسط الغابة، في كلمة افتتح فيها الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2022، وقال فيها إن أوروبا حديقة، وهي أفضل مزيج من الحرية السياسية والرخاء الاقتصادي والترابط الاجتماعي الذي استطاعت البشرية أن تبنيه، لكن أغلب بقية العالم ليس حديقة بل أدغال.
ما يتناساه فريدمان، ومن قبله بوريل وغالانت، وحتى الشاعر البريطاني كيبلينغ الذي يُعتقد أنه صاحب الاستعارة الأصلية للحديقة وسط الغابة، أن هذه الحدائق المزعومة بُنيت عبر إبادات غير رحيمة لأهالي البلاد الأصليين الذين استعمر الغرب بلادهم ونهب خيراتهم، ولم يتورّع عن وصف من تبقى منهم بالحيوانات والحشرات، والأسوأ أن هناك من لا يزال يحرص على استقبال فريدمان أو سواه حتى وهو يعرف أنه قد يلجأ إلى عالم الحيوانات لوصفه إذا تعذّر عليه وصفٌ آخر.