تونس .. المركبة المُعْطَبَة
لا تكاد خطب الرئيس التونسيّ قيس سعيّد وتصريحاته تخلو من تقسيم التونسيّين إلى صادقين شرفاء وفاسدين يتحرّكون في الغرف المظلمة ويعملون لحسابهم الخاصّ ويتسلّقون المناصب لنهب ثروات الشعب. وقد هدّد مرّاتٍ كثيرة بأنّه سيأتيهم يومٌ يخرج فيه هو عن واجب التحفّظ ويخبر الشعب بجرائمهم. ورفض الحوار الوطني الذي اقترحه اتّحاد الشغل، ورفض أداء الوزراء اليمين الدستوريّة أمامه بعد التعديل الوزاريّ الذي أُقيل فيه وزراء يعتبرون موالين له، ورفض المصادقة على قانون المحكمة الدستوريّة. ثمّ أعلن يوم 25 يوليو/ تمّوز "تدابير استثنائيّة" جمّد بها اختصاصات البرلمان، وأعفى رئيس الحكومة. وانطلق مشروعه لتغيير الحياة السياسيّة في خمسة محاور أساسيّة.
الأوّل مثّله فقهاء القانون الدستوريّ والسياسيّون المؤيّدون للانقلاب، فتعسّف أساتذة القانون الدستوريّ في تأويل الفصل 80 من الدستور، واعتبروا "التدابير الاستثنائيّة" أمرا دستوريّا. ومنهم من قال إنّها انقلاب، ولكنّه يقرّها ويدافع عنها. أمّا السياسيّون الموالون للرئيس فالغالب على آرائهم التبرير والتحريض ووصل التبرير إلى نوع من المدح الشعبوي، كقول أحدهم إنّ الرئيس قليل النوم ويعمل نحو 15 ساعة ولا يأكل إلّا مرّة واحدة في اليوم. ووصل التحريض إلى الدعوة إلى استئصال معارضي الرئيس (حركة النهضة خصوصا) كما في قول نائب (في البرلمان المجمّد) إلى سعيّد: "إما أن تجهز عليهم اليوم بالقانون، أو أن يجهزوا عليك غدا بالمافيا".
أيّدت وسائل الإعلام الانقلاب، إلّا في استثناءاتٍ معدودة، وعاد الإعلام إلى العمل بالتعليمات
الثاني قادته صفحات في "فيسبوك" و"تويتر" بدعم خارجي، وفيها حسابات وهميّة كثيرة، ولكنّها استطاعت أن تعبّئ الناس نفسيّا ضدّ "النهضة" و"الديمقراطيّة الفاشلة"، وأن توجّههم إلى تأييد قيس سعيّد والانقلاب. ويشترك في المادّة "السياسيّة" التي يروّجها جمهورُ الانقلاب، تصديقا وتبادلا واستدلالا، الإنسان المحدود التعليم والمعلّم والأستاذ والمحامي والطبيب، إلخ... ويتوهّم كلُّ مروّج أنّ له فكرة وموقفا وقيادة ومشروعا وخطّة ودولة ومستقبلا مزدهرا لا يرى فيه إلّا أشباهه. والأمرُ كلّه مصنوعٌ في غرف التحكّم الإلكترونيّ معجما وفكرا وشعورا، ولذلك لا تجد فيه تنوّعا ولا تطوّرا تدريجيّا ينتهي بنتيجة، بل فيه تحوّلات كلّيّة بطريقة القفز، كتتالي صفحات الموقع الإلكترونيّ.
والمحور الثالث فيه "أهل الثقافة"، ومنهم الكتّاب والشعراء والفنّانون والمدرّسون والصحافيّون.. وقد كُتبت بالعربيّة واللهجة التونسيّة نصوص نثريّة و"شعريّة" في تأييد الانقلاب وتبريره. ونُشرت مقاطع فيديو قصيرة تؤيّد الانقلاب بتعليقٍ أو تمثيلِ مشهدٍ معروفٍ في تونس ويركّب على الحدث السياسيّ. وأقصى ما بلغه هؤلاء "أغنية " للطيفة، بثّتها التلفزة الوطنيّة الأولى، ظاهرها ثناء على الشعب وحقيقتها تمجيدٌ للانقلاب بكلماتٍ عاديّة مباشرة، وفيها تحريضٌ على طرد جميع المعارضين (واللّي مش عاجبو على برّه). ثمّ اضطرّت التلفزة إلى سحبها من موقعها الإلكتروني بعد النقد الشديد لكلماتها وموسيقاها وعنفها الصريح. ولم تنجح هذه المحاولات "الفنّيّة" في تنعيم الانقلاب، وتحويل فكرته إلى مجال الطرب اليوميّ.
وأيّدت وسائل الإعلام (التلفزة والإذاعة) الانقلاب، إلّا في استثناءاتٍ معدودة، وازدادت فيها إشارات التأييد حتّى غدت السياسة الإخباريّة مثلا نسخةً شبيهةً بما كان قبل 2011. وعاد الإعلام بسهولة إلى العمل بالتعليمات. وما يقال في المؤسّسات الإعلاميّة يقال في مواقف الصحافيّين المفردة.
أحدثت سياسة الرئيس التونسي انقساما عميقا في المجتمع
وكُتبت تدويناتٌ كثيرة في صحّة تأويل الفصل 80 من الدستور، والاستدلال على فساد التجربة الديمقراطيّة، والتبشير بالقضاء على الفساد. وأقصى مراحله التحريضُ على إقصاء الأحزاب (النهضة خصوصا) وحلّها والتنكيل بقادتها وأتباعها. واكتفى المعتدلون بالدعوة إلى ضرورة الخروج من حالة الانسداد السياسيّ والاختناق الاقتصاديّ، ومحاكمة من ثبت فساده بالقانون. وأكثر ما غلب على هؤلاء تأييد الانقلاب تأييدا مطلقا يمحو شخصيّة المؤيّد، ويمنعه من إنتاج الفكرة السياسيّة والمساهمة في "البناء الجديد". وتعبّر عن هذه الحالة جمل من أكثرها تداولا: "سيّدي الرئيس اضرب بيد من حديد ونحن معك". وفي خلفيّة هذا الموقف فهم ميكانيكيّ للدولة ووظائفها، فيكفي في تأسيس تجربة سياسيّة جديدة ناجحة تغيير قطع الغيار: المشروع والاستراتيجية والمسؤولين السياسيّين الفاشلين، أي رموز ما بعد 2011.
والمحور الرابع فيه كلّ من أيّد الانقلاب وبدا من أنصار قيس سعيّد، سواء كان منهم قبل 25 يوليو أو ركّب الأحداث بسرعة. وقد جمعوا في تدويناتهم بين عبارات التأييد الظاهرة والسخرية من خصوم سعيّد، والدعوة إلى استعمال العنف مع المعارضين، وتخويفهم ممّا ينتظرهم من تنكيل بعد استقرار الأمور للرئيس. ومواقفُ هذا الجمهور "السياسيّةُ" مكتوبة بلغة ومرجعيّة شعبيّتين، وفيها تحلَّل السياسة تحليلا شعبيّا بالأمثال الشعبيّة والثقافة الجنسيّة والعبارات النابية والمفردات البدويّة والقياس على التجربة المهنيّة اليوميّة. وإذا جرّدناها من لغة التأييد والتمجيد والتهديد، لم يبق منها إلّا البنية الذهنيّة الشعبيّة والتطرّف في التأييد.
والمحور الخامس حملة الاعتقالات الليليّة التي قُبض فيها على نوّاب في البرلمان، وأعادت إلى الأذهان المداهمات الليليّة التي عرفها التونسيّون في حكم زين العابدين بن عليّ. وحاولت قوّات أمنيّة اختطاف نوّاب من أمام المحكمة، ثمّ انتهت الحملة بصدور إذنٍ بكفّ التفتيش من قاضي التحقيق بالمحكمة العسكريّة، وأُطلق سراح النوّاب، واعتبر المحامون ذلك انتصارا في معركة معارضة الانقلاب.
يهدف قيس سعيّد إلى غاية مركزيّة، هي تثبيت صورة القائد الذي يجمع في يده السلطات كلها ليبني الشرعيّة الجديدة التي يحلم بها
والملاحظ أنّ سياسة الرئيس ونشاط هذه المحاور أحدثا انقساما عميقا في المجتمع، ولّد عنفا هائلا يتفجّر في الخطاب وينذر بهول كبير، وأنّ الانقلاب آخذ في التوسّع، فقد أبدت النقابات ومنظّمات المجتمع المدنيّ أخيرا مواقف تطالب بخريطة طريق واضحة ولكنّها لم تظهر معارضة للانقلاب في نفسه؛ وتردّد القضاء وجُمّد من غير أمر رئاسيّ مكتوب (وُضع قاضيان في الإقامة الجبريّة ومُنع آخرون من السفر بلا مانع قانونيّ). واستمرّ رئيس الدولة في توظيف الخطاب الشعبويّ، فطالب بتخفيض أسعار الموادّ الغذائيّة المصنّعة والأدوية والحبوب وبتوفير الماء .. وقرن هذه الوعود بحرصه على حفظ الحقوق والحرّيات في لغةٍ إنشائيّة، كقوله إنّه لن يترك تونسيّا ظمآن إلى الماء ولا إلى الحرّيّة. يقال هذا والماء مقطوعٌ عن أحياء كثيرة في مختلف مدن البلاد. وأمّا الحرّيّة فلا ضامن لحفظها بعد المداهمات الليليّة والامتناع عن توضيح سبب اختفاء رئيس الوزراء المقال، والتأخّر في إعلان خريطة الطريق أو توضيح مشروع الرئيس بعد قرارات 25 يوليو.
لقد عملت المحاور الموصوفة بشعار شعبويّ عامّ هو محاربة الفساد، وبتصميم إلى غايتين صُغْراهما إضعاف "النهضة" أو إقصاؤها أو حلّها، وكُبْراهما إيقاف التجربة الديمقراطيّة الناشئة. وعلى هذا التصوّر، قام "مشروع" قيس سعيّد منذ نشأته. فقد قاطع انتخابات المجلس التأسيسيّ سنة 2011 لأنّها قامت على نظام التصويت على القائمات (القوائم)، وهو يدعو إلى التصويت على الأفراد ليتحرّر المترشّح والناخب في سلطة الأحزاب، ولتكون النتائج أكثر تمثيليّة للإرادة الشعبيّة. ثمّ قاطع انتخابات 2014، لأنّه يبشّر بفكر سياسيّ جديد (التصويت على الأفراد، وانتخاب المجالس المحلّيّة في المعتمديّات، ومنها تنتخب المجالس الجهويّة في الولايات، ومن المجالس الجهويّة ينتخب المجلس الوطنيّ). وأوّل مرّة شارك فيها في الانتخاب كانت في رئاسيّات 2019 التي ترشّح فيها. وراجت عنه يومئذ صورة الأستاذ الزاهد في الدنيا، الصلب في تطبيق الدستور والقانون، الجادّ في محاربة الفساد، المتحرّر من سيطرة الأحزاب. وكان في حملته مصرّا على أنه يترشّح من خارج إطار الانتخابات فسمّى حملته "حملة تفسيريّة" لا انتخابيّة.
الأحزاب غارقة في المعارك الهامشيّة والحسابات الخاطئة التي جعلت تونس ورقةً عند الوسطاء الدوليّين
ثمّ قال في خطاب التنصيب: "إنّ الشعب استنبط طرقا جديدة في احترام كامل للشّرعيّة، لم يسبقه إليها أحد، هو ارتفاع شاهق غير مسبوق في التاريخ، بل هي ثورة حقيقيّة بمفهوم جديد، لأنّ الثورات تقوم كما هو مألوف ضدّ الشرعيّة، ولكنّ ما حصل في تونس هو ثورة حقيقيّة بأدوات الشرعيّة ذاتها.. هي لحظة تاريخيّة يتغيّر فيها مسار التاريخ". لقد كان انتخاب قيس سعيّد حدثا من خارج السياق الديمقراطيّ ألجأت إليه الحسابات السياسيّة الخاطئة، واعتبره هو بداية التأسيس الجديد لشرعيّة ومشروعيّة جديدتين بأدوات الشرعيّة القديمة. وظلّ يستعدّ لإعلان التأسيس حتّى يوم 25 يوليو/ تموز الماضي. وكلّ ما فعله بعد ذلك (الأوامر والزيارات والخطب) يرمي إلى غاية مركزيّة، هي تثبيت صورة القائد الذي يجمع في يده السلطة جميعا ليبني الشرعيّة الجديدة كلّها بعد هدم الفساد كلّه، والفساد الحقيقيّ هو الحياة الحزبيّة والديمقراطيّة التمثيليّة .. وكلّ ما وقف في طريق القائد.
ولا ينتبه هذا التصوّر الجديد الحالم إلى تعقيدات الواقع التونسيّ وإكراهات القوى الدوليّة، وتشاركه القصورَ والفشلَ "النخبةُ" والأحزاب. فالنخبة لم تستطع فعل شيء مؤثّر في الانقلاب، واكتفت بالتأييد المطلق أو المعارضة المطلقة. وبدت مواقف المؤيّدين خصوصا ملتبسة، فهي تجمع بين التبرير والمطالبة بخريطة طريق واضحة، وفقدانُ الخريطة يعني أنّ التبرير لا موضوع له إلّا الرغبة في إزالة خصم سياسيّ فرضته الانتخاباتُ؛ وهي ترفع شعار الدفاع عن الديمقراطيّة، وتجيز، في الوقت نفسه، تجميعَ السلطات في يد شخص واحد، وخرْقَ الدستور وقطعَ التجربة الديمقراطيّة بأمر رئاسيّ فرديّ. وأمّا الأحزاب فغارقة في المعارك الهامشيّة والحسابات الخاطئة التي جعلت تونس ورقةً عند الوسطاء الدوليّين، فيما السياسيّون فيها يتصارعون في مشهدٍ يشبه كثيرا صراع الأطفال على قيادة مركبة مُعْطَبَة، شغَلهم بالتنافس على قيادتها من أعطبها.