تونس بأمر الرئيس: حلّ المجالس البلدية
المجالس البلدية من أهمّ الهيئات المدنية التمثيلية في تونس قبل الثورة وبعدها، وتُعنى بإدارة الشأن المحلّي وتقديم خدمات عدّة للمواطنين. وعليها المعوّل في تنمية المناطق الراجعة لها بالنظر اقتصادياً، وثقافياً، وبيئياً، وحضرياً. ومن مشمولاتها ضبط موازنة البلدية، ومداخيلها ومجالات تصريفها، وتحديد الرسوم في التراب البلدي، والإذن باستغلال الممتلكات البلدية أو تسويغها أو التفويت فيها، وتوفير خدمات القرب للمتساكنين، وتطوير البنى التحتية، وتهيئة الأفضية العمومية، وتحسين المناحي البيئية والجمالية والعمرانية للمناطق البلدية. وهي أساس الديمقراطية التشاركية، واللامركزية والحكم المحلّي.
وشهدت تونس سنة 2018 آخر انتخابات بلدية وفق نظام الاقتراع على القوائم واحتساب أكبر البقايا، وبلغت نسبة المشاركة فيها 35.6% من مجموع من يحقّ لهم التصويت. وانتهت بتشكيل 350 مجلساً بلدياً منتخباً في 24 محافظة، وبلغ عدد أعضاء المجالس البلدية المنتخبة زهاء 7200 عضو، منهم مستقلّون، ومنتمون إلى مرجعيات حزبية مختلفة (حركة النهضة، الجبهة الشعبية، التيار الديمقراطي، نداء تونس...). وشهدت جهاتٌ رقابيةٌ محلّيةٌ ودولية موثوقة بنزاهة الانتخابات البلدية 2018 التي جسّدت تنوّع المشهد السياسي في تونس وعزّزت مشاركة المواطنين في إدارة الشأن المحلّي. وساهمت المجالس المنتخبة إلى حدّ معتبر في تحسين الأداء البلدي، وتوفير الحاجيات الضرورية للسكان، ورسّخت فكرة التدبير الحرّ، والحكم المحلّي التشاركي، وتمتعت بقدر معتبر من الاستقلالية في مرحلة الانتقال الديمقراطي.
وكان يُفترض أن تُنهي المجالس البلدية المنتخبة مدّتها النيابية (خمس سنوات) مع مطلع يونيو/ حزيران المقبل. لكنّ الرئيس قيس سعيّد استبق الأجل القانوني لنهاية عهدتها، وعمد إلى إصدار ثلاثة مراسيم (09/03/2023) تتعلّق بالشأن المحلّي. فنصّ مرسوم على تنقيح القانون الانتخابي، وآخر على حل المجالس البلدية، وثالث على تنظيم انتخابات المجالس المحلية وتركيبة المجالس الجهوية ومجالس الأقاليم. والواقع أنّ حلّ مئات المجالس البلدية المنتخبة، وإلغاء عضوية آلافٍ من ممثلي الشعب، بمبادرة رئاسية فردية، يُثير عدّة إشكالات قانونية، وله تداعيات عدّة. وقد جرى من دون استناد إلى مرجعية دستورية أو قانونية واضحة، فقد جاء المرسوم عدد 9 مجرّداً من الإحالة على أيّ أصل قانوني أو دستوري في هذا الخصوص، فدستور 2022 الذي وضعه قيس سعيّد لا يمنح رئيس الجمهورية صلاحية حلّ المجالس البلدية المنتخبة. كما أنّ الأمر 117 الذي أطّر حكم الاستثناء لا يُسعف بنصّ صريح في هذا الشأن. يضاف إلى ذلك أنّ الفصل 204 من مجلّة الجماعات المحلّية ينصّ على أنّه "لا يمكن حل المجلس البلدي إلا إذا استحال اعتماد حلول أخرى، وبمقتضى أمر حكومي معلّل، بعد استشارة المجلس الأعلى للجماعات المحلية، وبناء على رأي المحكمة الإدارية العليا ولأسباب تتعلّق بإخلال خطير بالقانون أو بتعطيل واضح لمصالح المتساكنين، وذلك بعد الاستماع إلى أعضائه وتمكينهم من حق الدفاع".
رئيس الجمهورية يريد القول إنّه الماسك الفعلي بكلّ السلطات، والمتحكّم في تحوّلات المشهد السياسي
وبدا واضحاً أنّ المرسوم الرئاسي بإلغاء المجالس البلدية المنتخبة لم يستند إلى أمر حكومي، ولا إلى قرار قضائي، ولم يستمع إلى أصوات آلاف الأعضاء البلديين، ولم يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم. بل وضعهم جميعاً في سلّة واحدة وأمر بإيقاف عملهم جميعاً دفعة واحدة، فتمّ بذلك استبدال الشرعية الانتخابية بسطوة المراسيم الرئاسية. وعدّ مختصّون في الشأن البلدي القرار الفوقي/ الفردي بالحلّ من دون استشارة البلديين والسكان ومكونات المجتمع المدني تجاوزاً للسلطة وخرقاً للقانون. وفتح ذلك الباب واسعاً للمنازعات القضائية بين الهياكل البلدية (والجمعوية) ورئاسة الجمهورية.
وفي سياق متّصل، يُثير تكليف الكتّاب العامّين بتسيير البلديات إشكالاً قانونياً بحسب أهل الاختصاص، باعتبار أنّ الكاتب العام ليست له صفة ضابط الحالة المدنية، وليس من صلاحياته التوقيع على شهادات الولادة والوفاة أو إبرام عقود الزواج، وليس في مقدوره تفويض تلك المهام إلى أعوانٍ آخرين باعتباره لا يملك صفة رئيس البلدية. ومعلوم أنّ ذلك سيُربك سيرورة العمل في المرفق البلدي، ويعطّل تأمين الخدمات الاستعجالية الموجّهة إلى المواطنين. كما أنّ المراسيم الرئاسية الثلاثة المتعلّقة بالشأن المحلّي لم تشر إلى تنصيب نياباتٍ خصوصيةٍ بديلاً عن المجالس البلدية المنتخبة، وهو ما أشار إليه سعيّد شفوياً في مجلس الوزراء (08/03/2023)، قبل صدور المراسيم المذكورة في الجريدة الرسمية (09/03/2023). وبناء عليه، ستعاني البلديات من فراغ وظيفي وخدمي بعد حلّ المجالس المنتخبة. وحتّى في حال الاستعانة بنيابات خصوصية، فإنّها تبقى محدودة الفاعلية والشرعية، ذلك أنّها غير منتخبة بل معيّنة من المحافظ، وتفتقد عمقاً شعبياً، وليس لها دور تمثيلي/ تشاركي فعّال. وسبق أن جرّبها التونسيون بعد الثورة، ولم تكن في مستوى النجاعة المطلوبة. بل كان أداؤها ضعيفاً. ومن ثمّ، لن يحلّ الاستعجال بالحلّ مشكلات الناس، بل سيزيد الأوضاع تعقيداً.
ومن الناحية السياسية، لم يقدّم رئيس الجمهورية تبريراتٍ واضحة لإقدامه على حلّ المجالس البلدية المنتخبة التي بذل التونسيون كثيراً من المال، والجهد، والوقت لتركيزها، وتلقّت الدولة مساعداتٍ مالية معتبرة لدعمها وترسيخ مشروع اللامركزية والحكم المحلّي. ويمكن تفسير القرار الرئاسي بالحل الجماعي للبلديات بعدّة أسباب، منها ضيق رئيس الجمهورية ومريديه بالصلاحيات الواسعة، وهامش الاستقلالية وحرية التدبير التي تتمتع بها المجالس البلدية، ففي ذلك تشتيت للسلطة وتهديد لوحدة البلاد وتماسكها. وقد سبق لسعيّد أن اعتبر بلدياتٍ عارضت قراراته ولم تلتزم بأوامره (بلدية بنزرت، بلدية الكرم مثالا) "دويلاتٍ داخل الدولة". كذلك يرى الرئيس وأشياعه في المجالس البلدية المنتخبة امتداداً لأحزاب معارضة وازنة، مثل حركة النهضة، والجبهة الشعبية، والتيار الديمقراطي. لذلك حرص منذ قيام مسار 25/07/2021 على تحجيمها وتهميشها على التدريج للحدّ من نفوذها. فمن الناحية الهيكلية، عمد سعيّد إلى حذف وزارة الشؤون المحلّية بموجب الأمر الرئاسي عدد 197(23/11/2021)، وألحق مشمولاتها وهياكلها المحلية والجهوية والمركزية بوزارة الداخلية. ودلّ ذلك على أن الرئيس لا يؤمن بفكرة استقلالية الشأن المحلّي وتمتعه بمقوّمات خصوصية، بل يعتبره تابعاً للسلطة التنفيذية. ومن الناحية الدستورية، لم يتضمّن دستور 2022 سوى فصل يتيم بشأن الجماعات المحلّية، وفي ذلك دلالة بحسب مراقبين على رغبة رئيس الجمهورية في تقويض البناء اللامركزي الذي أسّسه دستور 2014، ونبْذه كلّ السلطات المضادّة أو الهيئات المدنية والتمثيلية الموازية التي تنافسه على اتخاذ القرار.
هياكل الدولة ومؤسساتها وسلطاتها بين يدي الرئيس وتحت إمرته، فهو من يحدّد تركيبتها وصلاحياتها ومصيرها
والواقع أنّ إقدام الرئيس سعيّد على الحلّ الجماعي للمجالس البلدية المنتخبة قبل نهاية عهدتها النيابية (12/06/2023)، وقبل ثلاثة أيّام من انعقاد الجلسة الافتتاحية للبرلمان الجديد (13/03/2023)، يُخبر أنّ رئيس الجمهورية يريد القول إنّه الماسك الفعلي بكلّ السلطات، والمتحكّم في تحوّلات المشهد السياسي. ويذهب ملاحظون إلى أنّ في إنهاء أعمال أعضاء المجالس البلدية بطريقة فوقية/ انفرادية تهويناً من قيمتهم، واستخفافاً بالإرادة الشعبية التي انتخبتهم، وإبرازاً لقيس سعيّد في صورة "الرجل القوي" الذي يستعين بأجهزة الدولة الصلبة وسلطة المراسيم ليمضي في تقويض مؤسّسات عشرية الانتقال الديمقراطي (2011 - 2021). ويمكن القول إنّنا انتقلنا عمليّاً في مستوى طبيعة النظام السياسي من مرحلة رئيس الدولة ذي الصلاحيات المحدودة بعد الثورة إلى حقبة دولة الرئيس بعد 25/07/2021 وبمقتضاها تصبح هياكل الدولة ومؤسّساتها وسلطاتها بين يدي الرئيس وتحت إمرته، فهو من يحدّد تركيبتها وصلاحياتها ومصيرها. وفي ذلك اختزالٌ للدولة في شخص الرئيس وتأسيسٌ لمعالم حكم كُلياني.
والبديل عن المجالس البلدية السابقة، بحسب المرسوم الرئاسي عدد 10، مجالس محلية، اختصاصاتها غير واضحة، ويتمّ انتخابها وفق نظام الاقتراع على الأفراد، لا القوائم الحزبية أو المستقلّة، وهو ما يضعف من الخلفية السياسية للعملية الانتخابية، ويُفضي إلى تصعيد شتات أفرادٍ لا تجمعهم أرضية برامجية واحدة. بل يرتهنون لروابط أسرية، وعشائرية ومصلحية ضيّقة. ولا يحقّ لمزدوجي الجنسية الترشّح لعضوية المجالس المحلية، وهو قرارٌ تمييزي ضدّ طيفٍ من التونسيين، يتعارض مع مبدأ المساواة بين المواطنين. وفرض المرسوم المذكور حصول كلّ مترشح(ة) على 50 تزكية من دون مراعاة التناسب بين عدد التزكيات وعدد الناخبين في كلّ دائرة انتخابية. يضاف إلى ذلك أنّ اعتماد القرعة لتصعيد أعضاء من المجالس المحلية إلى المجالس الأعلى درجة لا يستند إلى معايير الكفاءة والنزاهة والاختيار الحر بين برامج سياسية تنافسية. بل يستند إلى تحكيم الاعتباطية وترجيح ضربة الحظ على نحوٍ يسمح بصعود مرشّحي المصادفة إلى المجالس التمثيلية المقبلة التي يبدو أنّها ستكون فاقدة الاستقلالية، تابعة بشكل عضوي للمركز، وواقعة تحت هيمنة السلطة التنفيذية. ومن غير البعيد في حال تنظيم انتخاباتٍ محلّية مستقبلاً أن يكون العزوف كبيراً. فلسان حال الناس يقول: ما الفائدة من انتخاب مجالس تمثيلية، إذا كان في مقدور الرئيس أو الوزير حلّها بجرّة قلم؟!
ختاماً، يمكن القول إنّ قيس سعيّد بحلّه المجالس البلدية المنتخبة فكّك لبنةً أخرى من لبنات البناء الديمقراطي التشاركي بعد الثورة، وانتقل بتونس في مستوى اتخاذ القرار من المركزية الشعبية إلى المركزية الرئاسوية، على نحو يعيد إنتاج ملامح الدولة الشمولية، وذلك في ظلّ بهتة المعارضين وتشتّتهم.